وفاة "الشيف رمزي" (18 يونيو/حزيران 2023) دافعٌ إلى طرح سؤال، يُلحّ في مهنة الصحافة المكتوبة، لبنانياً وعربياً: رغم أنّ شعوباً عربية عدّة مهمومة بالمأكل والمشرب، ومنها من يكترث بهما إلى حدّ الهوس، لماذا تعجز الصحافة المكتوبة تحديداً عن ابتكار "نقدٍ" يهتمّ بالطبخ وفنونه وفنّانيه وتفاصيله وأجوائه وحكاياته، كالحاصل في صحافةٍ غربية، يومية وأسبوعية، تُخصّص صفحات له، ترويجاً أو قراءة أو مقاربة تحليلية؟
مصائب تلك الصحافة العربية (والإعلام العربي) كامنةٌ في انهماكها بالسياسة والصراعات والنمائم، بينما يقتصر انشغالها في الثقافة على أدب وشعر ورواية وقصة (وبعض علوم إنسانية متفرّقة)، وفي الفن على مسرح وأغنية وموسيقى وسينما ودراما تلفزيونية. أمور كثيرة (شبه) غائبة، كالنتاج الفني الثقافي الشعبي في مجتمعات عربية مختلفة، وهذا نتاج يتساوى والنتاجات الأخرى، أو يبزّها إبداعاً وعمقاً وأهمية، غالباً.
من الفنون المغيّبة في الغالبية الساحقة من الصحافة والإعلام العربييّن، هناك الأزياء والدبكة والزجل والشعر العامي، مع أنّ لبعض هذا حضوراً ما بسبب علاقات عامة وصداقات بين مسؤولي صفحات وبرامج ثقافية ومبتكري هذه الفنون. من يهتمّ بلهجاتٍ، لها ثقافاتها وتقاليدها الاجتماعية والحياتية والانفعالية؟ من يكترث، صحافياً وإعلامياً، باليوميّ في حياة بشرٍ ومجتمعات؟ مؤسّسات نادرة للغاية تُنتج أعمالاً توثّق بعض اليوميّ. لكنّ الصحافة المكتوبة العربية غير منتبهةٍ إلى هذا الجانب الأساسي في حياة أفرادٍ وجماعات.
لا إدّعاء لي بمتابعة دائمة لبرنامج "الشيف رمزي" (اللبناني رمزي شويري، 1971)، ولا لغيره من "نجوم" إعلاميين في الطبخ، فعلاقتي بالمأكل عاديّة للغاية، والأكل عندي تلبية لجوع لا أكثر، وينتهي سريعاً. في المهنة، يحول كسلٌ ما دون اهتمامٍ بشؤون ثقافية غير تقليدية وغير ثابتة وغير مُكرّسة في الصحافة والإعلام العربيّين. من عملت معهم في "السفير" البيروتية، طيلة 33 عاماً (1983 ـ 2016)، يحرضّون أحياناً على مقاربة هذين الفن والثقافة الشعبييّن، من دون جدوى غالباً، لكسلٍ فيّ وفي الزملاء والزميلات، على الأرجح. لا يوجد اهتمام بالأزياء، رغم أنّ القسم الثقافي معنيٌّ بالسينما والتلفزيون والمسرح، ولا أحيّد نفسي عن هذا، إذْ يندر اهتمامي بالأزياء، كفنّ سينمائي قائم بحدّ ذاته، إلاّ نادراً (أتذكّر حوارين صحافيين مع مُصمّمتي أزياء، اللبنانية بابو لحود والمصرية ناهد نصرالله). لا يوجد اهتمام بالماكياج أيضاً. فما بالك بمسائل أخرى مرتبطة بحياة شعوبٍ ومعتقداتها وتقاليدها، وهذا كلّه أساسيّ في ثقافاتها وأنماط عيشها، وعلى الصحافة والإعلام الاهتمام بها، فهذه مهنةٌ مرتبطة بالناس، وللناس.
صحفٌ ومجلات غربية، متخصّصة بفنّ الطبخ وغير متخصّصة به، تمنحه حيّزاً لكتابة ونقاش، ومطاعم وحانات ومؤسّسات معنية به تكترث وتتابع، وتهاب ناقداً في فنّ الطبخ من قول ورأي وتعبير، لأنّ لديه سطوة وتأثيراً. لكنّ صحفاً ومجلات عربية كثيرة غير مكترثة، وبعض الإعلام العربي يُنتج برامج للطبخ لا لنقده، وهذا مطلوب فالطبخ أساسيّ وضروري.
هذا يختلف عن السينما، الغربية تحديداً. أفلامٌ عدّة تعاين أحوال المطبخ، وتروي سِيَر طبّاخين وطبّاخات، وتغوص في المهنة وتفاصيلها ونزاعات العاملين والعاملات فيها. هذه أمثلة غير لاغية أخرى: "روح المطبخ" (2009) لفاتح آكين، "فاتِل" (2000) لرولان جوفي، "دفتر الغداء" (2013) لريتش باترا، Brunt لجون وَلْس (2015)، وغيرها.
لا أتذكّر فيلماً عربياً من هذا الصنف. أفلام مصرية تُصوّر أناساً يأكلون بشراهة، بشكل يُثير غثياناً غالباً، وهذا لا علاقة له بالطبخ وبفنّه، وبأصول المأكل والمشرب، إلاّ نادراً (بعض أفلام عادل إمام، مثلاً). في أفلامٍ كثيرة، يظهر المطبخ وعملية الطبخ والمأكل، وما يستلزمه المأكل من أشياء مختلفة. مثلٌ على ذلك: "الماء والخضرة والوجه الحسن" (2016)، للمصري يُسري نصرالله. الفيلم غير محصور بهذا، لكنّ "عشق" نصرالله للطبخ وفنّه، وبراعته فيهما، منعكسٌ في تصويره كيفية إعداد الطعام، بشكلٍ شهيّ. "طبّاخ الريّس" (2008)، لسعيد حامد، مختلفٌ تماماً. المطبخ وما فيه، والمأكل ومستلزماته، أمور عادية للغاية، تدخل في إطار كوميدي تبسيطي، مع شيءٍ من نقدٍ سياسي مبطّن وخجول. "مقلوبة"، فيلمٌ قصير لرشيد مشهراوي (ضمن أفلام قصيرة بمناسبة بدء ألفية جديدة: "أفلام الألفية، بيت لحم، 2000")، يُقدّم شيئاً من تقنيات صُنع هذه الأكلة الفلسطينية المشهورة، بالتوازي مع واقع فلسطيني قاسٍ.
لا أتذكّر فيلماً عربياً عن فنّ الطبخ، وصراعاته وابتكاراته وحضوره في الاجتماع والاقتصاد والعيش، في مقابل برامج أجنبية، وعربية تُقلّدها، تصنع مأكلاً، وتتيح لهواةٍ منافسات في فنّ إعداد الأطعمة. هناك روايات عربية تصف أحوال طبخٍ وكيفية صُنع مأكلٍ، وآلية احتساء خمر، كجزءٍ من يوميات أفراد وأنماط عيشهم. دراسات، لها علاقة بالاجتماع والسلوك والنفس البشرية، تهتم وتحلّل. رغم هذا، هناك غيابٌ (شبه) مطلق لصحافة وإعلام يهتمّان بنقد الطبخ وفنّه وفنّانيه، كالحاصل في الغرب، أو في بعضه على الأقلّ.
لا أحسم، بل أقول إني غير مُتذكّر. المتابعة السينمائية المطلوبة غير مُتمكّنة من معرفة كلّ شيءٍ، فلعلّ في السينما المغاربية مثلاً إنتاجات كهذه. لكنّ السؤال يُطرح.