لأنطوان ملتقى أفلامٌ أيضاً: أداءٌ أجمل من وسيلته

26 فبراير 2024
أنطوان ملتقى وجورج خبّاز في "غدي": حِرفيةُ مسرح في فيلمٍ شفّاف (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُظلَم اللبناني أنطوان ملتقى عندما تتشارك مرثياتٌ فيسبوكية عدّة في رحيله (21 فبراير/شباط 2024)، قبل أقلّ من 4 أشهر على احتفاله بعيد ميلاده الـ91 (مواليد 9 يونيو/حزيران 1933)، بتذكّر "عشرة عبيد زغار" (1974)، فقط من دون غيره، رغم أنّه أحد أبرز الأعمال التلفزيونية، للمخرج جان فيّاض (كتابة ناجي معلوف، الذي يمثّل فيه أيضاً). يُظلَم، إذ له في المسرح تأسيسٌ وأعمال واختلافات، وفي التلفزيون عبورٌ فاعل، كما في السينما، مع أنّ الفنّ السابع غير منتبهٍ إلى حِرفية وجماليات في التمثيل، يُتقنها عاملون وعاملات في فنّ الأداء المسرحيّ، لـ"الاستفادة" من هذا التمثيل سينمائياً.

هذا يُقال، لكن من دون التغاضي عن أنّ ليس كلّ مُبدع وباهر في التمثيل المسرحي قادراً على إبداع يُبهر في السينما والتلفزيون، والمقصود بهذا الأخير نتاجٌ مُنجَز في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته وثمانيناته، وأعوام أولى في تسعينياته أيضاً. ملتقى، وزملاء له وزميلات، يُبهرون في أداءٍ سينمائي، منبثق أساساً من حِرفية المسرح، وهذا كافٍ لتمتّع وانبهار.

لأنطوان ملتقى اشتغال تلفزيوني لبناني غير محصور بـ"عشرة عبيد زغار"، رغم قلّة الأعمال التلفزيونية المُشارك فيها. لعلّ "جريمة في القلعة" (1982، عن رواية لأغاتا كريستي)، الذي تكتبه وتُخرجه لطيفة ملتقى (زوجته منذ عام 1959، وإحدى أبرز العاملات في المسرح اللبناني أعواماً طويلة)، يُكمِل اختبار ذاك المسلسل المُثير لخوفٍ وارتباك، في ذات مُراهقٍ يُشاهد "عشرة عبيد زغار" عند عرضه مجدّداً على شاشة "تلفزيون لبنان"، بالتزامن مع عرض "جريمة في القلعة"، الذي يتفنّن، بدوره، في إثارة خوفٍ وارتباك أيضاً، لن يكونا بقوّة حضورهما في المسلسل السابق عليه.

يختلف عنهما "من برسومي" (2001)، لإيلي أضباشي إخراجاً، وسمير سعد مراد كتابةً: نصٌّ يقتفي أثر نزاعٍ بين أبناء بلدةٍ وبناتها، بسبب احتلالٍ أجنبي تتنازع عليه فرنسا وإنكلترا. تعريفٌ يختزل عملاً، من دون إيفائه حقّاً مُثمراً في كيفية الكتابة والإخراج والتمثيل، لانتمائه إلى نمطٍ محترف في سرد حكاية، ومعاينة وقائع، وانعكاس حياة في أداء مُقنع بفضل تواضعه وبساطته، وعمقه البشري والحسّي.

رغم أنّ ممثّلي المسلسلين الأوّلين وممثّلاتهما يصنعون مسرحاً تجديديّاً ومخالفاً وصادماً ومؤثّراً، فإنّ جمالية الأداء طاغيةٌ على وسيلته. أي أنّ ميلاً إلى تقنيات المسرح يظهر في التمثيل، لكنّ التمثيل، بفضل امتلاكه جماليات درامية وفنية وتقنية، أقوى من أنْ تبتلعه وسيلة التمثيل، إن تكن الوسيلة فيلماً سينمائياً أو عملاً تلفزيونياً.

أميل إلى قولٍ مفاده أنّ أنطوان ملتقى ـ المُشارك في أفلامٍ لبنانية قليلة، أبرزها "لبنان رغم كلّ شيء" (1981) لأندريه جدعون (1941 ـ 1985) ـ غير متمكّن من تمثيل سينمائي، لسطوة المسرح عليه وفيه، وهذا أهمّ وأجمل. لتاريخه المسرحي أرباب يعرفون حكاياته وأعماله، ولهم ـ لهنّ المساحة الأوسع لقولٍ مفيد، يُفترض به أن يتجاوز رثاءً وبكائيات، ليبلغ نقداً لأعمال، وتأريخاً لسيرة، وتوثيقاً لحكايات، ويكون تكريماً صادقاً وشفّافاً لمُلهمٍ ومُعلّمٍ ومبتكر.

 

 

وإذ يبقى "لبنان رغم كلّ شيء" (معروفٌ أنّه غير معروضٍ تجارياً في لبنان) أهمّ إنجاز سينمائي له، وأحد أهمّ الإنجازات الفيلمية اللبنانية زمن الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، فإنّ أفلاماً أخرى تكون له أشبه بتمرين على الاستمرار في أداء تمثيلي، يمنح الفيلم حيويةً أكبر، ويجعله أكثر قبولاً ومصداقية، وإن يبقى هذا الفيلم أو ذاك عادياً في اشتغاله. وملتقى، بحضوره في فيلمٍ أو أكثر، غير مُجدِّدٍ وغير صانع اختلافاً، يُفترض بمبدع مثله أن "يرتكبه". قول هذا غير منتقصٍ من مكانته في فنٍّ (المسرح) يسبق، بأعوامٍ كثيرة، فنّاً آخر (السينما)، يحتاج إلى وقتٍ طويل لتأكيد حضوره، وكثيرٌ من حضوره (فنّ السينما)، أقلّه في اللاحق على النهاية الهشّة والمزعومة والناقصة للحرب الأهلية اللبنانية، بارعٌ في اشتغالٍ فني تقني، وفي معاينة مسائل وحالات وانفعالات.

مسألة المفقودين ـ المفقودات (المخطوفين ـ المخطوفات)، في أعوام الحرب الأهلية نفسها (يُقدّر العدد بنحو 17 ألف شخصٍ غير معروفٍ مصيرهم ـ مصيرهنّ إلى الآن)، تحضر في "وينن" (2013)، الذي يُخرجه شبابٌ كعمل جماعي: ناجي بشارة وماريا عبد الكريم وزينة مكّي وطارق قرقماز وجاد بيروتي وكريستال إغنياتس وسليم هبر. في العام نفسه، يُشارك ملتقى في "غدي"، لأمين درّة، الذي يتناول مسألة التوحَّد، ومدى القبول الاجتماعي لمُصابين ـ مُصابات به.

هذان فيلمان يعكسان تجربة سينمائية لممثل ومخرج مهموم بالمسرح وأدواته ومفرداته، ومعنيّ بتمثيلٍ يُجدِّد في تقديمه من عمل إلى آخر، خاصة في المسرح. تجربة سينمائية، لن يحتاج الراحل إلى عناء كبير ليكشف فيها براعته الأدائية (لا مبالغة في القول إنّ تمثيله ساحرٌ) في ظهور أمام الكاميرا، ولو لدقائق، فالمدّة معه غير مهمّة، وإنْ يرغب المهتمّ بأكثر منّها. الدقائق القليلة تلك تجعل حضوره باهراً، بلكنته وحركته وقوله ونطقه وانفعاله، فتبدو وسيلة التمثيل غير أساسية (رغم ميل واضح لديه إلى المسرح)، لأنّ التمثيل أهمّ، وامتلاكه جمالياته كافٍ ليكون سيّد مواقع التصوير أمام الكاميرا.

هذا مكشوفٌ أيضاً في أعمال تلفزيونية، ركيزتها الأولى مسرح مقتبس ومحوَّل إلى عملٍ درامي لبناني، يقول (العمل) إنّ له في المسرح محترفين ومحترفات، غير متردّدين عن اختبار أي تجربةٍ، تمثيلاً وإخراجاً وكتابة، طالما أنّها (التجربة) امتدادٌ لما يمتلكون، فيمنحون التجربة بعض ما فيهم ـ فيهنّ من جماليات مهنةٍ وحِرفيتها.

المساهمون