في 11 مايو/ أيّار 2022، أصيبت مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة برصاصةٍ قاتلةٍ في الرأس، في أثناء تغطيتها اقتحام الاحتلال الإسرائيلي لمخيم جنين للاجئين في الضفّة الغربية. منذ البداية، وجّه الاتهام إلى إسرائيل بقتل الصحافية برصاص قناص، وهو ما أكدته صحف ووكالات أنباء مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"أسوشييتد برس"، ومضت "سي أن أن" أبعد من ذلك، لتقدم أدلة على أنّ قتل الصحافية كان "هجوماً موجّهاً". مع ذلك، استغرق الأمر 5 أشهر من التحقيق، ليعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّ هناك "احتمالية عالية بأن يكون أحد جنوده قد أصاب أبو عاقلة من دون قصد"، كذلك لم يستبعد أن تكون "قد أصيبت برصاص فلسطيني". لغاية الآن، لم يُحاسب أحد.
وبعد مرور عام على الجريمة، أصدرت لجنة حماية الصحافيين، اليوم الثلاثاء، تقريراً عنوانه "نمط فتاك: 20 صحافياً قتلوا بنيران القوات الإسرائيلية خلال 22 سنة من دون أن يُحاسب أحد"، انطلقت فيه من جريمة قتل أبو عاقلة، لتوثّق مسؤولية جيش الاحتلال عن مقتل 20 صحافياً على الأقل منذ عام 2001، ووجدت "نمطاً في الاستجابة الإسرائيلية يبدو مصمماً للتملص من المسؤولية. فقد أخفقت إسرائيل في إجراء تحقيقات كاملة بشأن أحداث القتل هذه، ولم تجرِ تحقيقات معمقة إلا عندما يكون الضحية أجنبياً، أو عندما يكون الصحافي القتيل موظفاً لدى مؤسسة إعلامية بارزة. وحتى في تلك الحالات، سارت التحقيقات ببطء شديد، واستغرقت أشهراً أو سنوات، وانتهت بتبرئة الأشخاص الذين أطلقوا النيران".
لجنة حماية الصحافيين: أخفقت إسرائيل في إجراء تحقيقات كاملة بشأن أحداث القتل هذه، ولم تجرِ تحقيقات معمقة إلا عندما يكون الضحية أجنبياً، أو عندما يكون الصحافي القتيل موظفاً لدى مؤسسة إعلامية بارزة
وتتألّف مجموعة الصحافيين الذين قتلوا على يد الاحتلال منذ عام 2001 من 18 صحافياً فلسطينياً وبريطاني وإيطالي. قضى 13 صحافياً منهم في قطاع غزّة، فيما قتل الباقون في الضفة الغربية (3 في نابلس، و2 في رام الله و2 في جنين). ولم يُدَن أو يُتّهم أو يُعاقب أي جندي في قوات الاحتلال على أيّ من هذه الجرائم الممتدة على أكثر من عشرين عاماً.
واعتبرت اللجنة في تقريرها أنّ تحوّل قتل الصحافيين إلى نمطٍ متكرر لدى جيش الاحتلال أدى إلى "تقويض شديد لحرية الصحافة، وتعريض حقوق الصحافيين للخطر".
ولفتت إلى أنّها أرسلت طلبات متعددة إلى المكتب الصحافي لجيش الاحتلال لإجراء مقابلات مع مدّعين عامين ومسؤولين عسكريين قوبلت جميعها بالرفض.
وأشارت إلى أنّ التحقيقات في مقتل الصحافيين على يد الجيش الإسرائيلي تتبع تسلسلاً روتينياً، يتضمن تجاهل المسؤولين الإسرائيليين للأدلة وللشهود، وظهورهم خلال التحقيقات لتبرئة الجنود من عمليات القتل. فضلاً عن أنّ هذه التحقيقات تستغرق سنواتٍ، ولا تعرض نتائجها أبداً أمام الرأي العام، إذ يحرص الاحتلال على إبقائها سرية. ومنذ عام 2014، فتح الجيش الإسرائيلي تحقيقات لتقييم الحقائق في 5 جرائم قتل صحافيين، منهم أبو عاقلة، وفتح تحقيقاً لتقييم الحقائق في قصف واسع النطاق أدى إلى مقتل ثلاثة صحافيين آخرين خلال الحرب على غزّة عام 2014. لكنّ جماعات حقوق الإنسان في دولة الاحتلال حذرت من غياب الاستقلالية عن هذه التحقيقات وبطئها، إذ يمكن أن تستمر لسنوات، ما يعني إمكانية تلاشي ذكريات الشهود، وإتاحة الفرصة لإخفاء الأدلة، أو لتنسيق إفادات الجنود الخاضعين للتحقيق.
تجاهل الأدلة والشهود
اعتبر التقرير تعامل جيش الاحتلال مع التحقيق في مقتل شيرين أبو عاقلة نموذجاً على "تجاهل الأدلة والشهود" من قبل إسرائيل في كلّ قضايا قتل الصحافيين. فضحت وسائل الإعلام الغربية زيف ادعاءات جيش الاحتلال بأنّ مقتل أبو عاقلة كان خطأً خلال الردّ على مطلقي نار فلسطينيين، وبيّنت انعدام أي أثر للاشتباك في مكان وجود المراسلة. مع ذلك، بقي الاحتلال رافضاً لتحمّل مسؤولية جريمته، معلناً في تقريره النهائي أنّ هناك "احتمالية عالية" لأن تكون أبو عاقلة قد قتلت من "طريق الخطأ". كذلك، تجاهل مطالبة "رابطة الصحافة الأجنبية في إسرائيل" بنشر محاضر التحقيق في الجريمة.
لكن بعد أسابيع من صدور البيان الأخير لجيش الاحتلال، نشرت منظمة فورينزك آركيتيكتشر ومنظمة الحق الفلسطينية المعنية بحقوق الإنسان تقريراً مشتركاً، أعاد بناء ملابسات مقتل أبو عاقلة. ووجدت المنظمتان أنه "وفقاً لعملية إعادة البناء الرقمية والبصرية لخط رؤية مطلق النار، لا شك أن سترة الصحافة التي كانت ترتديها الصحافية كانت مرئية بوضوح خلال الحادثة. ولم يرد الاحتلال علناً على تقرير المنظمتين.
ولفتت لجنة حماية الصحافيين إلى أنّ التنصل من المسؤولية أمرٌ معتاد لدى قوات الاحتلال، مذكرةً بمقتل المصور الإيطالي رافاييل تشيريلو عام 2002 في رام الله، والصحافي في القناة الإخبارية لـ"أسوشييتد برس"، نزيه دروزة، عام 2003.
في الحالة الأولى، أصرّ الاحتلال على "عدم وجود دليل أو معلومة عن قيام جندي في الجيش بإطلاق النار باتجاه المصور الإيطالي"، على الرغم من تأكيد عدّة شهود أنّ مصدر إطلاق النار كان دبابة إسرائيلية.
وفي الحالة الثانية، أعلنت "أسوشييتد برس" أن تحقيقها أوصل إلى أنّ الرصاصة التي قتلت دروزة "انطلقت من جهة قوات" الاحتلال. وعلى الرغم من تلقي الوكالة الإخبارية الأميركية وعوداً إسرائيلية بإجراء تحقيقٍ في القضية، فإنها لم تحصل على أيّ نتائج أو معلومات من قبل الاحتلال.
تجاهل الشارات الصحافية
من بين الضحايا العشرين لقوات الاحتلال، واحدٌ منهم فقط كان في منزله حين أصابه القصف، أما البقية فقد قتلوا جميعهم خلال تأديتهم لمهامهم الصحافية. كان 13 صحافياً من بينهم يرتدون بشكل واضح إشارات تدلّ على عملهم، أو موجودين داخل سيارات تحمل علامات واضحة على صفتهم الصحافية.
عام 2008، قتل مصوّر "رويترز" فضل شناعة في قطاع غزّة بقذيفة أطلقتها دبابة إسرائيلية، على الرغم من أنّه كان يرتدي سترة زرقاء تدلّ على هويته الصحافية بشكل واضح، ويقف بجوار سيارة كُتب عليها بوضوح كلمتا "تلفزيون" و"صحافة". لكن المحامي العام العسكري الإسرائيلي أفيخاي ماندلبليت برّر الأمر في رسالة إلى "رويترز" بالقول إنّ "سترة شناعة الواقية كانت شائعة لدى الإرهابيين الفلسطينيين"، وإن الصحافي "نصب غرضاً أسود غريباً (الكاميرا) قبالة الجنود".
في إبريل/ نيسان 2018، قتلت قوات الاحتلال صانع الأفلام ياسر مرتجى خلال تغطيته مسيرات العودة في غزّة، رغم ارتدائه لخوذة وسترة واقية كتبت عليها كلمة "صحافة"، وخرج وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، أفيغدور ليبرمان، قائلاً: "رأينا عشرات الحالات لناشطي حماس وهم يتنكرون كمسعفين وصحافيين".
ترويج سرديات زائفة
لفتت لجنة حماية الصحافيين إلى أنّ الاحتلال بقي مصراً على اتهام مرتجى بالانتماء إلى حركة حماس، بهدف تجريده من صفته الصحافية، على الرغم من عدم وجود أيّ دليلٍ على ذلك. وبيّن التقرير كيفية توجيه الاحتلال لاتهامات شبيهة من دون أدلة لتبرير قتله اثنين من مصوّري قناة الأقصى، التابعة لحركة حماس، حسام سلامة ومحمود الكومي، على الرغم من عدم وجود أيّ دليل على قيامهما بأيّ نشاطٍ عسكري. وتكرّر الأمر في حالة حامد شهاب، السائق لدى مؤسسة ميديا 24 المحلية الذي استهدف بصاروخ من الطيران الإسرائيلي خلال قيادته سيارة العمل التي تحمل إشارة "تلفزيون" بحجة نقله أسلحة لـ"حماس"، من دون تقديم أي دليل.
فتح تحقيقات بعد ضغوط دولية
أشار التقرير إلى أنّ قيام الاحتلال بالتحقيق، أو الادعاء بالتحقيق، في قضايا قتل الصحافيين، مرتبطٌ إلى حدٍّ كبير بالضغط الخارجي. ففيما جذب اغتيال أبو عاقلة التي تحمل الجنسية الأميركية انتباهاً عالمياً أجبر الجيش على فتح تحقيق في القضية، فإنّه من النادر أن يقوم الاحتلال بالتحقيق في قتل الصحافيين الفلسطينيين. لكن، حتّى في القضايا التي يُحقَّق فيها، يرفض الاحتلال تحمّل المسؤولية عن جرائمه.
في حالة الصحافي البريطاني جيمس ميلر الذي قتل برصاص إسرائيلي في قطاع غزّة عام 2003، تجاهل الاحتلال دعوات الحكومة البريطانية وأسرة الصحافي لمعاقبة قاتليه طوال سنوات. عام 2009، دفع الاحتلال تعويضاً يقدر بـ2.2 مليون دولار أميركي لأسرة الصحافي، لإنهاء القضية وعدم فتح مسار قضائي في بريطانيا. وعلى الرغم من نشر تسجيل فيديو يصوّر لحظة استهداف ميلر، فإن جيش الاحتلال لم يعلن يوماً أنّه مسؤول عن مقتله.
واعتبرت لجنة حماية الصحافيين أنّ جرائم الاحتلال باتت تهدّد استقلالية العمل الصحافي، في ظلّ تزايد خوف العاملين في المهنة على حياتهم، وأشارت إلى أنّ الإحساس بالخطر ازداد بعد مقتل أبو عاقلة بين الصحافيين الفلسطينيين والأجانب على حد سواء. كذلك، نقلت اللجنة عن مسؤول أمني لإحدى وسائل الإعلام العالمية رفض الكشف عن اسمه أنّ مؤسسته "غيّرت تقييم الخطر في إسرائيل والأراضي الفلسطينية من متوسط إلى مرتفع" لعدة أسباب، أهمها "المضايقات من قوات الأمن والمستوطنين والمتطرفين القوميين الإسرائيليين".
بطء التحقيقات وانعدام الشفافية
كشفت اللجنة أنّ جيش الاحتلال يستغرق أشهراً أو سنواتٍ ليحقّق في جرائم القتل، ويتجاوب ببطء مع دعوات التحقيق. في حالة ياسر مرتجى، قدّم المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة طلباً إلى الجيش الإسرائيلي للتحقيق في جريمة القتل بعد 6 أيامٍ على وقوعها. لكنّ الجيش ماطل طوال سنوات، قبل أن يقرّر في النهاية تجاهل الرد على المنظمة. وفي حالة أخرى، قدمت مؤسسة الميزان لحقوق الإنسان طلباً للتحقيق في مقتل المصور أحمد أبو حسين في اليوم التالي على وفاته جراء إصابته برصاص جندي إسرائيلي. أبلغ الجيش المؤسسة بتسلّم الطلب، ليعود بعد عامين ويبلغهم بإغلاق التحقيق، بسبب "غياب الدوافع الإجرامية لدى الجندي مطلق النار". وفي الحالتين، تجاهل الجيش مطالب المنظمتين الحقوقيتين بالحصول على نتائج التحقيق.
توصيات
قدّمت لجنة حماية الصحافيين في ختام تقريرها عدّة توصيات، فدعت الاحتلال إلى "فتح تحقيق جنائي في مقتل 3 صحافيين فلسطينيين، هم شيرين أبو عاقلة وأحمد أبو حسين وياسر مرتجى"، وإلى "مراجعة التحقيقات" في قضايا الصحافيين الآخرين، على أن تكون "تحقيقات سريعة ومستقلة وشفافة وفعالة" و"تتبع معايير التحقيق الدولية". وطالبت الاحتلال بـ"مراجعة وإصلاح قواعد الاشتباك الخاصة بجيشه لمنع استهداف الصحافيين في المستقبل، بما يتماشى مع توصيات الأمم المتحدة"، وكذلك إلى التعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي أي) في التحقيق في جريمة قتل شيرين أبو عاقلة.
كذلك، طالبت اللجنة الولايات المتحدة بإصدار تحديث لتحقيقات "إف بي أي" في مقتل أبو عاقلة، لافتةً إلى غياب أيّ معلومات عن القضية منذ بدء إعلان بدء التحقيق في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ودعت إلى استمرار ضغط الأمم المتحدة على إسرائيل "لتغيير قواعد الاشتباك ووقف استخدام القوة المميتة غير المبررة"، كذلك حثّت حلفاء دولة الاحتلال على "تحميلها مسؤولية التزاماتها الدولية وإنهاء الإفلات من الجرائم المرتكبة ضدّ الصحافيين في الأراضي الفلسطينية".