كيف انتقل "تيك توك" من شبكة اجتماعية مخصّصة للمراهقين ليصير التطبيق الأكثر شعبية في الغرب، إلى حدٍّ يهدّد فيه بالقضاء على "فيسبوك" خلال سنوات قصيرة فقط؟ هناك إجابات كثيرة قد تكون صحيحة، لكن الأكيد أنّ "تيك توك" تدين بنجاحها الهائل إلى مجموعة من الخيارات الذكية، بحسب صحيفة ذا غارديان البريطانية.
اعتمدت "تيك توك" في صعودها على عدّة عوامل، أهمّها: أدوات سهلة الاستعمال لإنتاج الفيديو مقارنة بـ"يوتيوب"، وهو ما يسمح لمستهلك الفيديوهات بأن يصير منتجاً لها. أيضاً، يتيح التطبيق لمستخدميه استعمال مكتبة ضخمة من الموسيقى المرخصة في إنتاج فيديوهاتهم، من دون أن يخشوا حذفها بسبب حقوق النشر. إضافةً إلى ذلك، قامت "تيك توك" بحملة إعلانية قيمتها مليار دولار عبر "فيسبوك" و"إنستغرام"، جذبت من خلالها العديد من المستخدمين الجدد.
مع ذلك، تظلّ الصفحة الرئيسية (For you Page) وخوارزمياتها الأداة الأقوى لجذب المستخدمين وإبقائهم نشطين على الموقع، بحسب "ذا غارديان".
فهم المستخدمين واهتماماتهم
تظهر هذه الصفحة الافتراضية للمستخدمين الجدد بمجرد دخولهم إلى التطبيق. حتّى وإن كنت لا تملك أيّ متابعين، فستجد هذه الصفحة ممتلئة بمقاطع الفيديو القصيرة الأكثر انتشاراً على التطبيق. أعطى هذا القرار "تيك توك" ميزة مقارنة بمنافسين مثل "فيسبوك" و"تويتر"، اللذين يبدوان كأرض قاحلة إن كنت لا تملك أصدقاء أو متابعين.
لكن، يظلّ ما يحدث بعد ذلك هو الأهم في معادلة نجاح "تيك توك"، أثناء التنقل من فيديو لآخر على الصفحة الرئيسية، يبدأ تغيير بطيء وتدريجي في نوعية ومحتوى الفيديوهات التي تظهر للمستخدم. في النهاية، تنجح الخوارزميات في إدراك تفضيلات المستخدم، وتصير قادرةً على توقّع الفيديوهات التي تهمه وتعرضها له.
في الظاهر، تتحدّث الشركة بانفتاح كبير حول كيفية عمل هذه الخوارزميات. في عام 2020، قالت الشركة إنّ ظهور الفيديوهات للمستخدمين يستند إلى عددٍ من العوامل، أهمها: "تفاعلات المستخدم مثل مقاطع الفيديو التي تعجبك أو تشاركها، والحسابات التي تتابعها، والتعليقات التي تنشرها، والمحتوى الذي تنشئه، إضافةً إلى معلومات الفيديو، التي تتضمّن أصواتاً ووسوماً، وأخيراً إعدادات الجهاز والحساب مثل اللغة المفضلة والبلد ونوع الجهاز".
لكن، تظلّ آلية تفاعل هذه العوامل التي تؤدي إلى ظهور فيديو معيّن في صفحة المستخدم، أمراً مبهماً، بحسب مؤلّف كتاب "تيك توك بوم"، كريس ستوكيل ووكر.
يقول الأخير لـ"ذا غارديان" إنّ أحد المسؤولين عن تتبع الفيديوهات الأوسع انتشاراً في المنصة أخبره بأنّه "لا توجد وصفة أو معادلة سحرية" تؤدّي إلى نجاح هذه الخوارزميات، وهو يعتقد بأنّه "حتّى فريق الخوارزميات في الشركة لا يملك إجابةً بشأن ذلك، إنّه أمرٌ شديد التعقيد".
أحد الابتكارات الحاسمة هو استعمال "تيك توك" لخوارزميات مختلفة عن تلك القديمة، لا تنتظر أن يضغط المستخدم زر الإعجاب أو المشاركة، أو يكتفي بإظهار فيديوهات مماثلة لتلك التي يشاهدها المستخدم. بدلاً من ذلك، تسعى خوارزميات "تيك توك" لاختبار توصياتها، عبر عرض مقاطع فيديو تعتقد أنّ المستخدم سيجدها ممتعة، وتقيس كيفية تفاعله معها.
يقول ووكر: "إنّها تسعى لزيادة اهتماماتك، وتراقب كيفية تفاعلك مع مقاطع الفيديو الجديدة التي تضعها في صفحتها الرئيسية"، يشرح: "إذا اعتقدت (الخوارزميات) أنّك تحب مقاطع فيديو عن سباقات فورمولا ون، فقد تبدأ بعرض بعض مقاطع الفيديو عن السيارات الخارقة".
الرابح الأكبر: صنّاع المحتوى
تسمح هذه الخوارزمية للتطبيق بتحديد اهتمامات المستخدم بسرعة، ولكنّها شديدة الأهمية لصانعي المحتوى والفيديوهات، بحسب رئيس استديو تيك توك في وكالة أوك كول الإبداعية ساشا مورغان إيفانز، الذي يقول لصحيفة ذا غارديان: "يتمّ تقديم كل مقطع فيديو منشور على تيك توك إلى شخص واحد على الأقل عبر الصفحة الرئيسية"، يتابع: "لقد اكتشفنا، بناءً على كيفية تراكم المشاهدات، أنّ تيك توك يقدّم كلّ مقطع فيديو إلى مجموعات من المستخدمين. في حال نجاح الفيديو بينهم، عبر التفاعل والتعليق والإعجاب، يتمّ عرضه على مجموعة أكبر من المستخدمين".
هذا يعني أنّ كلّ مستخدم لديه فرصة الشهرة العالمية. حتّى لو لم تكن تملك أيّ متابعين، فإن مقطع الفيديو الخاص بك سيظهر في النهاية في الصفحة الرئيسية لعددٍ من الأشخاص، وفي حال تمّ تصنيف تفاعلهم معه إيجابياً، فهذا يعني أنّه سيعرض لمزيدٍ من الأشخاص، وسيمكنك ذلك من تحقيق آلاف أو ملايين المشاهدات بسرعة كبيرة.
بحسب مورغان، تسمح المدة الزمنية القصيرة لمقاطع الفيديو على "تيك توك" للتطبيق بأن يطوّر خوارزمياته بسرعة، لأنّ قصر مدّة الفيديو يعني أنّ المستخدم سيشاهد مقاطع أكثر، ما يعني أنّ التطبيق سيجمع بياناتٍ عن المستخدم أكبر بكثير من تلك التي يجمعها "يوتيوب" مثلاً، حيث مدّة مقاطع الفيديو أطول.
ومع ذلك، فإن فعالية الصفحة الرئيسية ليست مطلقة، ويمكن التلاعب بها. اليوم، يلاحظ المستخدمون الجدد للتطبيق سعيه الحثيث لجمع البيانات الشخصية، وتوسّله للوصول إلى قائمة جهات الاتصال، وتتبع كلّ فيديو تتم مشاركته أو مشاهدته. في حال قام المستخدم برفض إعطاء هذه البيانات، فإنّ الصفحة الرئيسية ستصير أكثر عموميةً، مع بعض المحتوى الذي سيظهر بناءً على تحديد الموقع الجغرافي ونوعية الجهاز المستعمل.
أثناء وضع الإعدادات المناسبة، تعمل الخوارزميات بشكلٍ جيدٍ جداً في تحديد ما يجب عرضه للمستخدمين، إلى حدٍّ تُظهر فيه رسائل للمستخدمين الذين يقضون أوقاتاً طويلةً في تصفح التطبيق، وتطلب منهم وضع هواتفهم جانباً.
كما أضافت الشركة خياراتٍ جديدة تتيح للمستخدمين التحكم بالوقت الذي يقضونه في استعمال التطبيق، وإيقاف تشغيل وصول إشعارات بعد وقت النوم.
المستقبل بين المنافسة وضعف الإيرادات
إنّه العام الثاني لهيمنة تيك توك على الإنترنت، في سبتمبر/ أيلول 2021، تجاوز موقع "يوتيوب" بعدد الساعات التي يقضيها المستخدم على كلّ منهما. اليوم، تحاول شركة ميتا زعزعة هذه الهيمنة. أخيراً أعلنت "فيسبوك" و"إنستغرام" عن إجراء إصلاح شامل لتطبيقاتها بهدف تطوير الخوارزميات. كما هو الحال في تيك توك، بدأ التطبيقان بعرض كمّ هائل من المحتوى لأشخاصٍ لا يتابعهم المستخدم، مع تخصيص مساحة أقل لمنشورات أصدقائه أو من يتابعهم.
لم يتفاعل المستخدمون بشكلٍ جيدٍ مع هذه التغييرات، واضطرّ رئيس "إنستغرام" آدم موسيري إلى الاعتذار. مع ذلك فإنّ الشركة رغم تراجعها عن بعض التغييرات مستمرّة في خطتها، بحسب موسيري، الذي قال: "سنحاول تحسين التوصيات التي تظهر للمستخدمين، لأنّنا نعتقد أنّها إحدى أفضل الطرق لمساعدة منشئي المحتوى في الوصول إلى جمهور جديد وزيادة متابعيهم".
في الحقيقة، ربما يكون أبرز تهديد لصدارة التطبيق الآن هو شركة تيك توك نفسها. صحيح أنّ التطبيق يهيمن على المستخدمين، ولكنّ أرباحه ليست كبيرة. بسبب كونها مملوكة للقطاع الخاص، لا تنشر الشركة أرقاماً بإيراداتها، لكنّ شركة إي ماركتر قدّرت أربحاها في العام الماضي بـ4 مليارات دولار سنوياً، أي مبلغ لا يساوي 5% من عائدات "فيسبوك".
حاولت الشركة زيادة إيراداتها خلال العام الحالي عبر الطريقة التقليدية، وهي عرض المزيد من الإعلانات، وكذلك عبر استيراد تجربة جديدة، مثل التسوق المباشر، من تطبيق صيني هو دويين.
صحيح أنّ التجربة الجديدة فشلت بسبب ظهور مشاكل عديدة، أهمها التزوير، لكن، وبحسب "ذا غارديان"، فإنّ الفرصة لا تزال متاحةً أمام "تيك توك" لتطوير خططها والوصول إلى معادلة مثالية، قوامها الخوارزميات المتطوّرة وتحقيق الإيرادات التجارية الضخمة.