كيف تُصنع حكاية "فتاة الـ..."؟

14 يونيو 2022
قد تبدأ القصة من هاشتاغ يتمدّد من تويتر إلى فيسبوك أو العكس (Getty)
+ الخط -

تعثّرنا جميعاً بقضية "فتاة الـ..." أو بـ "عروسة الـ... "، ولنا أن نستبدل النقاط الثلاث باسم المنطقة السكنية التي وقعت فيها الواقعة، أو المنصة التي كانت مصدر الحدث الأولى. منذ أيام قليلة تعرّفنا إلى "عروس الـ..."، عروسٌ أو ضحية أو ترند جديد. عبرت حياتها في لحظة من الحيز الخاص الى العام. لا نعرف كيف يحدث هذا، ولكن الأكيد، وكما في كلّ مرة جديدة، يتمّ سحب الضحية (عُنوةً) إلى منطقة فارغة من أية خصوصية. حفلٌ بمشاركة شعبية، مصريون ومصريات وجنسيات عربية أخرى يلعبون أدواراً في لجنة تحكيم رديئة، ويحاصرون امرأة تُساءل عن حركة جسدها، نبرة صوتها وطبيعة كلامها في سياق حدث ما... توزيعٌ لميداليات الشرف، والاستحقاق، والأمومة الصحيحة، أو سحب لكل ما استحقته على مدار سنوات لتوضع هناك عند هامش المجتمع وتُجلد. التركيز على كونها امرأة ليس خياراً مُنحازاً، ولكن مراقبة سريعة لكل حدث تشاركه رجل وامرأة مصريان، سيكون التركيز/الترويج فيه منصبّاً على المرأة. 
يمتدّ الحدث وتمتدّ معه الأصابع، وكلٌّ لديه ما يقول. هنا لن نشرح أو نُفصّل كثيراً في تفاصيل القضية الأخيرة، هذا ليس الموضوع، بل هو تلك الحاجة المُلحّة إلى صناعة خبر من أي شيء وبأي ثمن. الموضوع هنا يتمحور حول تلك الرغبة بصناعة جدل وتصديقه والولوج إليه كقضية رأي عام. محاولة دوران حول آليّات صناعة المحتوى في الإعلام المصري. كأنّ في الأمر شيئاً ما مقصوداً، عملية استنساخ مستمرّة لنوعية مواضيع سبق أن حققت "نجاحها"، والنجاح هنا يعني طبعاً نسب المشاهدة المرتفعة. هذه محاولة فهم لكيف انعدم الخاص وتمدّد في الحيّز العام؟ هل هي الصدفة التي ضلّت طريقها فجعلت من مجهولين/ مواطنين عاديين حدثاً، أم أن الأمر صناعة تتغذّى على الضحايا؟

صناعة المحتوى

تقوم فكرة وسائل التواصل الاجتماعي على خلط مفهومي العام والخاص. لا حدود فاصلة بينهما، تطبيقات جعلت من الخاص عامّاً ووسّعت حدوده. وهذا كلّه يحتاج إلى تعريفات جديدة وتفكير مطوّل. ليس عيباً أن يُقرّر أي فرد نقل حياته الخاصة إلى مساحة عامة. ما دام الطرف المعني موافقاً فليكن، وعلى الأرجح تنتفي صفة الخصوصية عن الشيء بمجرّد تحقّق انتقاله. ولكن هل هذا يُعطي الحقّ للجميع بالتصرف، والتعليق، والنشر، والترويج واعتماد نبرة فضائحية في العرض؟ 
سنمرّ بشكل سريع على تفاصيل القضية الترند الأخيرة. كلمات تفوّهت بها شابة، توجهت بها مباشرة إلى خطيبها في يوم فرحهما. من المفروض أن يكون ما سبق جزءاً من حدث عاديّ في يوميات عائلة مصرية، لكن الموضوع صار محطّ جدل وأخذ وردّ. خرج أو أٌخرج الفيديو من سياقه وصار قضية رأي عام. دخلت الفتاة لائحة الكلمات الأكثر بحثاً في محرك البحث غوغل. هل بدأ الأمر مع موجة تعليقات أسفل الفيديو المنشور (غالباً) في صفحة خاصة؟ أم أن الفيديو انتقل إلى إحدى المنصات الإعلامية الافتراضية ليتمّ من خلاله اختلاق جدل؟ لا أحد يعلم. والسؤال أشبه بسؤال البيضة أولاً أم الدجاجة.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

ما هو أكيد أنّ ضرراً قد حصل، ويحصل مع كل حدث مشابه، وهو ضرر شخصي وعام في آن واحد. تشويه لحياة مجموعة من الأفراد، واختلاق قضية وإشراكٌ لمجتمع كامل بها، بطريقة لا تتردّد للحظة في شرعنة الجدل وجعله أمراً بديهيّاً وضرورياً. تتمّ محاصرة الضحايا في حلقة مفرغة لا نهاية لها، إلّا بوقوع ضحية جديدة. قد تبدأ القصة من هاشتاغ، يتمدّد من تويتر إلى فيسبوك أو العكس، ثم تلتقط القصة منصات افتراضية "إعلامية" ليتمدّد الأمر. تتضخّم الحلقة ليختفي الضحايا داخلها، من دون أدنى اعتبار لوجودهم وللخسارة والضرر الذي يتعرضون له. أمّا الحجة؟ قد تكون "الحفاظ على قيم المجتمع" أو نقاش "دور المرأة المصرية"، أمّا الضمنيّ فهو البحث المُلحّ عن المحتوى.
تُقحم الكاميرات في وجوه الضحايا. من خلفها يسأل بأريحيّة تامّة: هل تركك خطيبك؟ هل سيتركك؟ ماذا قال والدك؟ ماذا قالت والدة العريس؟ هل قصدتِ الإساءة؟ كاميرات وإضاءة وامرأة واقفة في بلكون بيت أهلها وضجة جيران من حولها. الكلّ محشور في وجه الضحية علّ الخبر يتفرّع فيصير أخباراً.

أبويّة الإعلام المصري

لن تكتمل هذه الحلقة من دون مشاركة الإعلام المصري التقليدي. وإلّا كيف سيتمّ إعلام من لم يتّصل بشبكة الإنترنت بعد؟ مشاركته الحدث لضمان مشاركة الجميع في الجدل. طبعاً، النيّة طيبة وخالصة الصدق. يخرج إعلاميون مصريون، يصرخون، ويستنكرون الضجة، أو يشاركون برجم الضحية. إعلام "قيم المجتمع المصري" يتدخّل لإصدار حكمه النهائي كأي قاضٍ في محكمة. لا يتعلّق الأمر بلحاق الترند والاستفادة منه. أبداً والعياذ بالله. هذا الإعلام سيتولّى تحويل الأمر إلى القضاء إن وجد في سلوك الفتاة ما يُسيء لقيم المجتمع، أو لتربية ولجم اللجان الشعبية إن وجد تجنّياً أو ظلماً. بأبويّة مُخلصة يُقحمون بدورهم كاميراتهم وهواتفهم في وجه الضحية وفمها لتبرئتها. يفتحون الهواء لها ويأملون أن تبكي، أن تعتذر، أن ترجو اللجان الشعبية في وسائل التواصل الاجتماعية رحمتها.
 لم يعد العبور إلى المساحات الخاصة لمجهولين بالأمر الصعب. ننحشر جميعاً في حيوات بعضنا البعض منذ فترة طويلة. رحلة من التحولات لمفهومي العام والخاص، وبانتظار العبور إلى تعريفات جديدة نعلق جميعاً في فترة من العبثية اللا محدودة. اختيار مصطلح العبثية هنا، قد يكون تعبيراً عن العجز في فهم سلسلة من التحوّلات المجتمعية. 
هذه العبثيّة ممتدّة، ليست محصورة في منطقة جغرافية أو جماعات دينيّة أو ثقافية، ولكنها تأخذ أشكالاً مُلفتة في مصر. عوامل كثيرة قد تكون السبب في هذه الاستثنائية، منها الديموغرافي والثقافي والسياسي... ولكن هذا لا يلغي رغبة ملحّة في التعليق والمتابعة، بعيداً عن البحث في السببيّة. هي فترات قصيرة، تلك التي تفصل بين عبور وآخر إلى حيوات نساء مصريات. فجأة ينتقلن من الحيّز الخاص إلى العام، تلتصق كاميرات في وجوههنّ ووجوه عائلاتهنّ وأقربائهنّ. فجأة تصير حياتهنّ عرضة لأخذ وردّ ولآراء، ولانقسام مجتمعي ويصرنَ خبراً، أو أكثر تحديداً يصرنَ الخبر. 
 

المساهمون