تكاد تكون علاقة الملحن كمال الطويل بثورة يوليو/ تموز في مصر، موسيقياً، أشبه بعلاقة إنغلز بماركس. فابن الأرستقراطية المصرية أصبح الصوت اللحني الأبرز لخطاب الثورة الاشتراكي. ليس هذا فقط، إنما بألحانه كان المتزعم لحداثة الأغنية في الخمسينيات والستينيات.
في عام 1954، أفصح لحنه لأغنية "على قد الشوق" عن حقبة غناء جديدة، بالتزامن مع تبلور وجه يوليو. وحين ذوى هذا الوجه في 1967، خفت وهج صاحب "حكاية شعب"، معتزلاً التلحين لسنوات بعد دوامة إحباط. لكن، قبل ذلك، وضع لحنه الاستثنائي "بلاش عتاب"، ليختتم به عصر الرومانتيكيات العربية الكبيرة، وزمنها الحالم.
كانت "بلاش عتاب" آخر أغنية عاطفية يقدمها عبد الحليم حافظ من ألحان كمال الطويل. صاغ الأخير اللحن على سلم الميجور، العجم، موظفاً تآلفات هارمونية لافتة. يثير اللحن ملامح من موسيقى البحر الأبيض المتوسط، التي ظلت إحدى مؤثرات ألحان الطويل، لكنها هنا تمتاز بأسلوب الصالونات التي ستذهب من دون عودة مع انجراف الغناء نحو الروح الشعبية. فهل كان الطويل، من دون وعي منه، يتصالح مع طبقته التي ذابت خلال سنوات الثورة؟
تمهيداً لكل غصن، تتدفق الموسيقى بطريقة واحدة، شلال كمانات تحتد، هي دائماً تجاوب مع صرخة "بلاش عتاب يا حبيبي"، أي مقطع نهاية المذهب. في الغصن الثاني، يأتي الجواب من درجة أقل. وتمهيداً للغناء، تنخفض درجة صوت الأوركسترا.
على أن الجمل اللحنية تخضع في بنائها لتنغيم متدرج، مع قفزات محدودة بين الدرجات النغمية، غايتها التشديد على المعنى. وأحياناً، يحدث ذلك باستخدام نغمة التحويل بيكار. ويقتصر التحول المقامي على الغصن الثاني من الميجور إلى المينور، وهما سلمان متقاربان.
حافظت الأغنية على وحدتها اللحنية من خلال انتقال مقامي محدود بين الميجور والمينور. ويأتي دور القيثارة المصاحب لبعض الجمل الغنائية بسمات إيطالية، تعيدنا إلى بدايات شكل الأوبرا، في بعض ملامحها، مع استخدام "الريستاسيف"؛ أي الإلقاء المُنغم. لكن أهم سمات الطويل اللحنية تكمن في مظهرها العام الذي يشبه السطح الجارف، بحيث لا يتم تعميقه بتعقيدات تطريبية أو زخرفية. وحتى في ألحانه القوية، يعتمد على أناقة غير مُتكلفة وبسيطة، وربما يمنح البناء المتواضع للحن شكلاً محورياً ولافتاً.
يتبع الطويل في ألحانه شكل الومضة، أو الومضات اللحنية المتصلة، والمتقطعة في الوقت نفسه، والتي يؤدي كل منها دوراً على حدة، وبالاتصال مع غيرها. ولعل ذلك تمثله بدرجة كبيرة أغنية "في يوم من الأيام" على مقام الكرد.
المطلع الجوابي المُطول، يختتم بضربة موسيقية قاطعة وسريعة، غناء مُرسل يجاوبه الشطر الثاني "كان لي قلب" بانحسار. وفي شطر آخر، يصبح موقعاً وأكثر غنائية وتدفقاً. في تلك الصورة تتنوع الحالة التعبيرية، فتصبح أشبه بالفلاشات المترابطة والثرية بالمعنى اللحني.
كان الطويل، أيضاً، يحاول توظيف ملامحه التجديدية على قاعدة واضحة، هو الذي منح ألحانه نسقاً يمكن تمييزه عن سواه، واقترح لنفسه شخصية موسيقية متفردة وسط كبار الملحنين، في كثير من جوانبها اتسمت بالخلق والتجديد الجامح. ومع خيبة هزيمة 1967، وصعود أصوات من هامش الأحياء الشعبية، شهد الغناء تجميعاً لصيغ شعبية مع أخرى عصرية. شهدت مصر ردة لتنكفئ نحو مصرنة الغناء، بعد أن كانت لأكثر من قرن قائدة للحداثة في المنطقة.
تغير شكل التوزيع الموسيقي واختلفت الرؤية مع هيمنة آلة الأورغ الكهربائية. ولم يعد كمال الطويل على الأرجح الوجه الملائم لتلك المرحلة. فاكتفى صاحب "والله زمان يا سلاحي"، بظهور يشبه الومضات، في ألحان بعضها حقق نجاحاً، وأخرى لم تلق أي رواج. ففي قرارة نفسه، كان الطويل مُدركاً أن خُلاصة موهبته وضعها في الخمسينيات والستينيات.
اللافت أن أشعار صلاح جاهين التي جعلت منه متزعم الألحان الثورية في مصر، جعلت منه صاحب الألحان الأكثر خفة ومرحاً. لكن شريكه الآخر، محمد الموجي، في مسيرة عبد الحليم حافظ، أبدى تعجبه من أن يسقط الطويل في صياغة لحن متواضع مثل "يا واد يا تقيل".
بالنسبة لصلاح جاهين، كان يقول إن لديه حالة اسمها كمال الطويل، ربما لأن الأخير برع في تصوير أزجاله بألحان على شاكلتها، يمكن وصفها بالسهل المُمتنع.
وفي تلك الثنائية، التي مثلها جاهين والطويل، لا يمكن إغفال دور إنغلز الذي مارسه سليل الأرستقراطية المصرية، وتحديداً في الجانب الموسيقي، لأنه عدا ذلك لم يكن يمت بأي صلة لإنغلز. بينما سنجد خطاب الاشتراكية يصيغه لحناً بعدما صاغه جاهين شعراً. وهي مرحلة توجت بعملهما لأم كلثوم "والله زمان يا سلاحي"، ليصبح النشيد الوطني لمصر.
إحدى سمات الطويل هي شياكة اللحن، وهذا جانب لم يتخل عنه حتى في كثير من ألحانه الوطنية. وابتكر اسلوباً خاصاً به في ألحان كانت أقرب للطابع القومي وخطاب المرحلة، فزاوج بين اللحن والهتاف. من هذه الناحية، جعل البعض منه امتداداً لسيد درويش.
تقترح الحان الطويل الوطنية مزيجاً من الأهازيج الشعبية بطابعها الاحتفالي وبين اللحن العاطفي. ففي مقدمته الموسيقية لأغنية "يا أهلاً بالمعارك" على العجم، ينبعث صوت الحجاز كدلالة للنداء العام في المشاركة الشعبية. ويتبنى للصيغة المقامية مجازاً تعبيرياً، ففي "عبد الناصر حبيبنا" يأتي مقام الكرد بدوره العاطفي ويشيع ألفة، فالظاهر أن اللحن يمارس تقريباً معنوياً بين الزعيم والناس.
في الجزء الثاني من الأغنية، يأتي الحجاز بمسحة تهكمية، انطلاقاً من التعبير عن مواجهة العدو. فالأغاني تلك جاءت أيضاً في منحى تعبوي يتسق مع خطاب المرحلة.
ويمنح الإطار العام للنشيد الوطني وظيفته الدعائية، لكن برصيد من الألحان الجميلة. وفي حالات أخرى، يكون هناك تلفيق، مثل الهتاف بشعارات ثورية بين المقاطع الغنائية، كما في أغنية "مطالب شعب".
تعتبر أغنية "صورة" آخر الملاحم الوطنية التي لحنها الطويل، فالأغنية مناسباتية وتتزامن مع ذكرى الاحتفال بمناسبة الثورة. يتخذ اللحن طابعاً احتفالياً، فهو صورة لما تعتبره الثورة قد تحقق في عهدها. وفي الوقت نفسه، تصوير عالم نموذجي لهذه الثورة خلال عهد ربيعها. عوامل عدة تقف وراء نجاح الأغنية، أحدها بساطة البناء اللحني، والاعتماد على الرشاقة الموسيقية؛ فنلاحظ أن انتقاله من العجم إلى النهاوند عند "على مدد الشوف" يعتمد على درجة الركوز نفسها، أي درجة فا، ما يمنح المقام تحولاً في مظهر اللحن ليصبح شجياً وعاطفياً. ولكل مقام دور، فالبيات يحرص على إضفاء الطابع الشعبي.
لم يكتف الأرستقراطي بطابع المرحلة، ليترك مخزوناً للغناء الثوري، اتسمت به الخمسينيات والستينيات، يمكن أن تسترجعه اللحظات الثورية، كما شهدتها ساحات ثورة 25 يناير/ كانون الثاني. إذ أصبح النشيد القصير، "أحلف بسماها"، ببساطته وجماله، أحد ملامح الأغنية الوطنية. ربما أتى بطابع حماسي ومشرق، خلافاً للحظة الانتكاسة السوداء. تحولت الإذاعة إلى ورشة يكتب فيها الأبنودي ويصيغها الطويل ويغني عبد الحليم مدفوعين بالحماسة، وكانت أخبار الانتصارات تزيف الواقع، حتى غرق الأمل مسدلاً ستارة غامقة بلون الحزن.
سكت الطويل سنوات، بعدما صاغ نشيده الحماسي "خلي السلاح صاحي". وبصوت صديقه عبد الحليم، شارك بلحن يتيم عن واقعة أكتوبر، هو "صباح الخير يا سينا". الجلي أنه تخلى فيه عن حماسته إلى الأبد، وكما لو كان تحصيلاً حاصلاً، ليأتي باهتاً ومتماهياً مع ملامح السبعينيات، سواء في روحها الشعبية، أو في الاستخدام المُفرط لآلة الأورغ. ومر اللحن باهتاً، من دون أن يترك أثراً، كما لو كان بقايا ملحن فقد حماسته بعد الهزيمة.
انتقلت مصر إلى عصر الانفتاح الساداتي، بتداعياته الاقتصادية والسياسية التي بلغت ذروتها في التطبيع مع إسرائيل. وتجاوباً مع المرحلة الجديدة، استبدل السادات النشيد الوطني "والله زمان يا سلاحي"، الذي لحنه كمال الطويل، بنشيد سيد درويش: "بلادي بلادي". كان آخر ما تبقى من العهد السابق لحن وقصة مثل فيها الطويل ذروة الخطاب اللحني بثوريته وحماسته.
وعلى شاكلة رفيقه صلاح جاهين، تقاطعت أصواتهما في أغان متفرقة، بعضها ساخر ومتعطش للحياة وربيعها، مثل "الدنيا ربيع"، وأخرى تضفي على الحياة طابعاً قاتماً، مثل "ساعات.. ساعات"، التي لم تؤدها ماجدة الرومي المراهقة كما ينبغي.
وفيها يودع ذلك الثنائي "الماضي وحلمه الكبير"، بمضمون تغلفه رسالة لتهاوي الأحلام وسط سحابة واقع قاتمة.
على أن الطويل لم يكن مجرد صاحب خطاب لحني ثوري اتسمت به حقبة سياسية، إنما أبرز ظاهرة حداثية في الخمسينيات، غيرت من توجهات الغناء من دون عودة. وربما ذلك السبب الذي استدعى الملحن محمود الشريف لوصف لحنه "في يوم في شهر في سنة"، كونه أجمل لحن مصري خلال خمسين عاما. ومن جهة أخرى كان رمز ما اعتبره الكلاسيكيون موجة الغناء الهابط التي سادت في الخمسينيات، سنجد ذلك في كتابات موسيقية نقدية ليحيى حقي، وما تعرضت له الأغاني الشبابية من أوصاف كونها سندويتشات، سبق للطويل ووصم بها.