"كالعيش في النعيم"... العمر سلعة في السوق السوداء

07 اغسطس 2023
نحن أمام أزمة أخلاقية تبحث في إطار المصلحة الإنسانية (نتفليكس)
+ الخط -

حلم الشباب الدائم والقضاء على الشيخوخة من أكثر الأحلام التي يسعى البشر إلى تحقيقها. أبحاث ودراسات مكثفة تواكبها مراكز وجمعيات ومستشفيات متطورة في مختلف بلدان العالم المتقدم. هذا البحث المحموم للتغلب على العمر والتقدم في السن يتصل في منظوره العلمي والطبي بالمنظور السينمائي والفني. وقد أدرجت العديد من الأعمال السينمائية التي استفادت من تلك الدراسات والأبحاث، لتقديم رؤيتها ضمن سيناريوهات متخيلة، آخرها فيلم "كالعيش في النعيم" Paradise الألماني الذي يعرض حالياً على منصة نتفليكس الأميركية.

فكرة هذا العمل تبدو بسيطة جداً. نريد الحفاظ على شبابنا. لفعل ذلك، يتطلب متبرعين بالوقت، متوافقين جينياً مع المتلقين. وهنا يأتي دور التكنولوجيا والتطور العلمي لتسهيل عملية النقل. بمعنى أبسط، شخص عمره 20 عاماً سيتبرع بـ25 عاماً من عمره، لشخص آخر يبلغ من العمر 65 عاماً، فيصبح عمر المتبرع 45 عاماً، والمتلقي 40 عاماً. صاحب هذه الفكرة شركة أيون للأبحاث والتطوير التي تقودها صوفي تايسون (إيريس بيربن).

البيئة الافتراضية التي تدور الأحداث فيها داخل العاصمة الألمانية برلين، تركز على عمل الشركة، وهيمنتها على المجتمع، وسطوتها على الناس والأمن والمستقبل. هيمنة لا بد لها من معارض يحارب أفكارها ودعوتها، كحال بقية أفلام الخيال العلمي التقليدية التي اعتدنا عليها. فالجوهر فيها طرح وجهتي نظر، والمشاهد يتابع ويقرر وينحاز كيفما يشاء. لذا، سنتعرف على منظمة "آدم" التي تقودها امرأة مجهولة الهوية تسمي نفسها ليليث. تعمل المنظمة على تصفية كل فرد قام بالتبرع بسنوات حياته مقابل مبالغ مالية طائلة تلقاها من الشركة، في محاولة منها لردع النظام الجديد الذي يخضع له الناس بشكل مطرد يوماً بعد يوم.

هذه العلاقة بين الشركة والمنظمة تأخذنا لمفاهيم الخير والشر، وإن وجدنا أنفسنا أمام أزمة أخلاقية تبحث في إطار المصلحة الإنسانية، فإن الارتهان للصواب الأخلاقي المشتت يفرز نتائج عكسية باسم الضمير الإنساني، من دون أن تكون هناك محاكمة للوعي، لتتحول الأخلاق إلى سلعة يتداولها أصحاب اليد العليا كلٍ وفق رؤيته. وانسحاب هذه الرؤية إلى أفراد المجتمع هو نتاج طبيعي لهذه المفاهيم التي سندركها حين ننظر إلى علاقة الشخصية الرئيسية ماكس (كوستيا ألمان) بزوجته إلينا (مارلين تانزيك)، والتحولات التي سيمران بها. من هنا سندخل ببعض الأفكار والرسائل السياسية والأخلاقية التي يمررها العمل، من خلال أحداثه التي تنطلق مع حريق مفتعل نشب في شقة الزوجين الفاخرة.

يعمل ماكس مدير تبرعات ناجح في الشركة. يقترض مبلغاً كبيراً من البنك هو وزوجته لشراء منزل فاخر بالتقسيط، مع دفع مبلغ للرهن العقاري قيمته 40 سنة من عمر الزوجة التي أخفت عن زوجها هذه المعلومة، ومع رفض شركة التأمين تغطية نفقات الإصلاح سيقع الزوجان في ورطة كبيرة يدفع ثمنها إلينا. يحلل العمل النظام الاستهلاكي الخاضع لمنطق التسليع، ثم يتجه بتوصيفه الواقع الحديث إلى تسويغ الحرية التجارية باسم المنفعة الخاصة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لعل هذه العلاقة ليست بغريبة عن واقع الإنسان الطبيعي، وعلاقته المجهدة بين حياته المهنية وشركات التأمين والمصارف، وكل ما يلزم الإنسان ورفاهيته التي يدفع بصحته وحياته ثمناً لها، بغية الحصول على حياة أفضل. حياة يمتصها النظام الرأسمالي بكل براعة. يذهب العمل إلى تحليل هذه المفاهيم مستعيناً بالخيال على يد ماكس وزبائنه الذين كان يصطادهم بحنكته وذكائه، فنراه يدفع بالعائلات الفقيرة وأحلامها بعيدة المنال للخضوع لهذا النظام، عبر منطق بسيط: "ما ستحققه بمبلغ هائل يغنيك عن عقدين من الزمن تكدح بهما على حساب صحتك".

إلا أن المفارقات ستتوالى في الفيلم، والنظام الإنساني سيتحول لطاحونة هواء، تولد تناقضات سلوكية ونفسية، يدفع بها هواء الفلسفة النفعية التي تقود مياه اللذة عند الإنسان. وهذه اللذة ستمتص كل ما طاب لها من تكنولوجيا وتقدم وتطور في سبيل الوصول للحرية المطلقة. حرية ستدفع، كما سنشاهد في الشريط، بامرأة ناضجة إلى العمل في تجارة المخدرات، ولكن بجسد طفلة في العاشرة من عمرها. ستمتد النفعية لتطاول حكومات الدول العظمى وعلاقتها مع أزمة المناخ التي نواجهها اليوم. كما لو أن هناك انتقاداً ساخراً من قبل صناع الفيلم للمسؤولين والحكام الذين، بحسب رؤيتهم، سيدفعون المطلوب في حال نجح العلم، مستقبلاً، في إنتاج عمليات نقل زمني، تمكنهم من العيش لفترة طويلة، وبالتالي مدة كافية لإصلاح أو علاج التغير المناخي الذي لا يتعاملون معه على أنه أمر طارئ أو مستعجل.

بدورها تقدم منظمة "آدم" فلسفتها ونقدها لمفهوم التبرع الزمني، والسلبيات الناتجة عنه. فهي تحارب هذه التجربة في سبيل إحقاق المساواة، ضمن المنطق الطبيعي للحياة والموت. كما أن الأمر يتعدى مسألة الوقت والمتبرعين أو المتلقين الأثرياء، ليطاول مشروعها النضالي أزمة اللاجئين ومخيمات اللجوء التي أشير إليها عند حدود ليتوانيا. وإن كنا سنبحث عن الغاية السياسية في الأمر فإننا لن نجتهد كثيراً في فهم الرابط الأخلاقي والإنساني اللذين أقحما في العمل كمفارقة شكلية. فاللاجئون في المخيم، رغم أنهم لا يظهرون في الشريط، إلا أننا سندرك حجم المخاطر التي يتعرضون لها كبقية أفراد المجتمع الخاضعين لنظام التبرع بالوقت، ولكن عبر السوق السوداء، وتجارها، الذين يساومون على حياة اللاجئين وشقائهم في الانتظار أمام أنظار العالم، وهي في ذلك، إشارة مبطنة لما يتعرض له اللاجئون القادمون من بيلاروسيا باتجاه أوروبا، والعالقون في مخيمات ليتوانيا، والمشهد السياسي المحتدم بين الدولتين حول أزمة اللاجئين يعرضه الفيلم على أنه أزمة سوق سوداء، يزول فاعلوها بالزمن.

عودة الجسد إلى مرحلة الشباب تبدو فكرة حالمة جداً. والتشبث بالحياة طبيعة فطرية تبرهن قسوة الإنسان وجحوده حين يطمح للحفاظ على بقائه وبقاء نسله وتوسعه. لذا لم يكن من الغريب انفصال إلينا عن زوجها الذي حارب كل شيء من أجل استعادة شبابها، ليتحول الأمر من علاقة زوجية يسودها الحب إلى علاقة إنسانية معقدة تحكمها المبادئ والطموحات والغرائز. فتمضي الزوجة بعد أن استعادت شبابها عن طريق ابنة صوفي التي خطفها الزوجان سابقاً إلى حياة جديدة مع إنسان آخر، بينما يتحول ماكس إلى مقاتل انضم لصفوف منظمة "آدم" لقتال المؤسسة التي كان يروّج لأفكارها ومنتجها.

المساهمون