قطاع غزة: مليونا وجه لصورة البطل

قطاع غزة: مليونا وجه لصورة البطل

20 مارس 2024
على مائدة إفطار في رفح (ياسر الخطيب / الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة، يجسد البطولة في غزة ليس فقط كإعلامي بل كأب وزوج في ظل العدوان، معكسًا صموده أمام الألم الشخصي كرسالة إنسانية.
- البطولة في غزة تتجسد في الأفراد من كل الأعمار والمهن، من الطبيب إلى الأم والأطفال، الذين يعيدون تعريف البطولة كإصرار على الحياة والكفاح من أجل البقاء والكرامة.
- الشعب الفلسطيني في غزة يواجه الحصار والظروف القاسية بإرادة البقاء، محولًا الصراع إلى ملحمة نضال تعكس القوة والعزيمة الفلسطينية، مؤكدًا أن البطولة ضرورة حياتية ووجودية.

بآلامه وانكساره، ظهر مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة وائل الدحدوح، بعد استشهاد عائلته. هذه المرة ليس بصفته مراسلاً صحافياً، بل أباً مكلوماً وزوجاً فقد زوجته وجدّاً قضى حفيده الطفل بنيران الاحتلال.
بصوته المتماسك وثباته في تغطيته لجرائم الاحتلال، أطلق الدحدوح عبارته التي ستصبح حاضرة في المشهد الإنساني الغزي بعد العدوان "بينتقموا منا بالأولاد.. معلش"، ليغدو بالنسبة لمن شاهد هول مصابه في مصاف الأبطال.
يراقب الدحدوح عالمه يتداعى أمام عينيه. الموت يخيم على مدينته الصغيرة، بدوره كإعلامي ينقل المشهد المأساوي للعالم. أما بصفته إنساناً غزياً، فقد أصبح جزءاً من الحدث وليس مجرد ناقلاً له.
يمكننا وصف الدحدوح بالشخصية الغزية النموذجية، إذ تتعاقب المآسي عليه حاله كحال أبناء قطاع غزة المحاصر. هو بطل تراجيدي، كما في التراجيديات اليونانية القديمة التي يعبر بطلها درباً من الآلام، مكبلاً بأحزانه، ذاق ما ذاقه من البؤس الذي ألحقه الاحتلال بالقطاع المنكوب. كل شيء ينهار، ولكن الثبات هو سيد الموقف، وربما هذا الثبات أضاف تعريفاً جديداً لمفهوم البطولة.
في قطاع غزة، بكى آلاف الآباء والأمهات أطفالهم الذين اغتيلوا بمنتهى الوحشية أمام أعينهم وأعين البشرية جمعاء. لن ينسى العالم الطفل الغزي يوسف الذي خلده صوت أمه المتهدج من البكاء والذعر وهي تبحث عنه في أروقة مستشفى الشفاء بين أشلاء الضحايا المتراكمة في المشفى الذي يعمل فيه والده الطبيب محمد حميد أبو موسى، تصفه "أبيضاني وحلو"، لتُصعق بجسده الصغير جاثماً في مشرحة المستشفى.
بعد أشهر من استشهاد يوسف، دخل جنود الاحتلال إلى المستشفى الواقع في مدينة غزة. أشار أحد الجنود بأصبعه إلى الطبيب، ليُقتاد من بعدها أسيراً إلى سجون الاحتلال.

نجوم وفن
التحديثات الحية

يدرك الاحتلال أن الطبيب أبو موسى أصبح رمزاً من رموز الحرب، حين أصر على الاستمرار بالعمل رغم شناعة كل ما يجري حوله؛ فالعدوان الذي ألحق بالقطاع ما لا يتخيله إنسان من القسوة والوحشية، فجّر في نفس الضحايا شجاعة تفوق التصوّر البشري المتجلي في الأدب والسينما. هكذا تغيرت سمات البطولة التي تصنع الرموز الوطنية من شخصية المنقذ إلى الملهم.
في غزة، تطهو الأم الفلسطينية حشيشاً من الأرض إفطاراً لعائلتها الصائمة. يخشى الاحتلال هذه المرأة التي تلقن أبناءها درساً في المقاومة والثبات. المرأة الفلسطينية تستوي مع الرجال في مقاومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وسياسته في القتل والتدمير والتجويع.
عند الحديث عن البطولة في فلسطين، يمكننا أن نفرد مساحة للطفل الفلسطيني، الذي لطالما حضر في مشهد المقاومة، ولا سيما في انتفاضة الحجارة. في العدوان الحالي، كان للطفل الدور الأكبر في التعبير عن معاناته وإيصال صوته للعالم بأسره، عبر خلق بطولة خاصة به، من شأنها أن تؤثر بالرأي العام العالمي.
يتحدث النقد الماركسي للأدب عن البطل الإيجابي، وهو البطل الذي يخرج من رحم الحياة، ويذوب عنده التناقض بين الفرد والجماعة. يمكن أن نرى في ما يحصل اليوم في قطاع غزة تفريعاً للمصطلح الذي شاع استخدامه في أدب الواقعية الاشتراكية، خصوصاً عند الحديث عن الأطفال، فارتباط الأطفال بالمستقبل، من شأنه ربما أن يحوّلهم من أبطال تراجيديين إلى أبطال إيجابيين.
تتجلى خصال البطولة في مبادرة الطفل الفلسطيني حسام العطار لتخفيف معاناة عائلته، وذلك عبر إضاءة عتمة الخيمة التي يقيم فيها مع أسرته، بعد أن نزحوا نتيجة العدوان. هكذا تحول حسام ابن الخمسة عشر ربيعاً إلى "نيوتن غزة"؛ إذ أعاد اختراع الكهرباء في ظل غيابها كلياً عن القطاع.
بعد نكسة عام 1967، تجلت صورة البطل الفلسطيني في الفدائي. وبعد الانتفاضتين، أصبح أطفال الحجارة رمزاً للمقاومة. اليوم، أصبح كل من يعيش في قطاع غزة بطلاً، فالطفل الغزي يروي قصة هو بطلها. رواية تضاف إلى أكثر من مليوني رواية تدين الاحتلال. فجيش الاحتلال الذي حشر ما يقارب مليوني مواطن في مساحة لا تتجاوز 365 كم مربع، كدّس قصصاً تشهد على إجرامه، فكل مواطن في غزة لديه قصة تدين إسرائيل.
في القطاع المدمّر الذي يفتقد لكل مقومات العيش، تأخذ إرادة البقاء منحًى آخر؛ إذ يتجاوز الأمر قصة احتلال وشعباً يعيش تحت وطأته، نحو أسطرة تحيط بالقضية الفلسطينية، فتضفي آلام الحرب على الغزيين هالة من القدسية، كما تسبغ إرادة البقاء عليهم صفات البطولة، وفي إصرارهم على العيش هم ينازعون لحياة مستقرة، أسوة بغيرهم من الشعوب، الذين لا يكدر هناء عيشهم احتلال.
لطالما سعى الشعب الفلسطيني إلى الخلاص من صورة الإنسان المضطهد، والخلاص معها من البطولة المرتبطة بوجود المحتل واضطهاده. فلا حاجة للبطولة في عالم مستقر. ولكن، يوماً بعد يوم، أو بالأحرى حرباً بعد الأخرى، تتعمق سمات البطولة على الشعب الفلسطيني الذي يكافح للعيش، في ظل احتلال يمارس أشنع الجرائم عليه، أو تأخذ البطولة شكلاً جديداً.
وعلى ذكر البطولة، تقول الأكاديمية الأميركية، سارة روي، إن لغزة ملامح مجتمع نموذجي في العالم الثالث، حيث ثمة جيوب ثراء محاطة بفقر مدقع بشع، مع ذلك إنها ليست "متخلفة"، إنها "متقدمة بطريقة مضاعفة".
أليس هذا شكل من أشكال إرادة البقاء، أو لنقل بالفم الملآن أليس هذا الأمر فعلاً ثورياً، أو بطولياً؟ إن البطولة بمعناها الفلسطيني ليست خياراً، وإنما أمر لا بدّ منه.
في غزة، تصبح الأسطورة واقعاً، ويغدو الواقع أسطورة. ويتحول الإنسان العادي إلى بطل. في المقابل، يستوي الأبطال بغيرهم من الناس. ولم يعد البطل التقليدي الذي تنتجه وسائل الإعلام هو بطل القصة، بل بات الشعب بأسره بطلاً يقاوم ببقائه حياً، أو حتى باستشهاده، فالمقاتل بطل والشهيد بطل، ومن يسكن الخيام بطل، ومن يجتاز الحواجز والأسلاك الشائكة بطل، وكل شاهد يحكي حكايته بطل، جميعهم أبطال يصنعون الحرية.
في مشروع بحث الفلسطيني عن إنسانيته، تنصهر الضحية بالبطل، ويصبحان شخصاً واحداً. حالما يروي الغزي قصته مع الاحتلال، يسجل شهادة حية في الإصرار على الحياة، ويعلن أنه ينتمي إلى مجتمع الأبطال، الذين يروون للعالم قصصهم التي تنصهر جميعها في القصة الفلسطينية، وهم بهذه القصص يعيدون الأمل بتحرير البلاد.

لطالما كانت البطولة مجالاً فلسفياً وأدبياً، ولكنها في السياق الفلسطيني مجال اجتماعي أيضاً. وانطلاقاً من هذا الأمر يخوض الشاعر الراحل محمود درويش بفكرة البطل في حوار أجراه معه مجموعة من المثقفين الفلسطينيين في رام الله بعد اتفاقية أوسلو. يشير في معرض حديثه عن الملحمة والبطولة وعلاقتهما بالرواية الفلسطينية إلى أن "البطل المعاصر هو الإنسان العادي، وهناك مبالغة في عاديته إلى حد الهامشية. إن البحث عن تحولات البطل في نتاجنا كله تقتضي تحولات في اللغة، والتخفيف من النطق باسم الجماعة إلى التكلم باسم الذات الحاملة للجماعة". ربما أصبحت فكرة درويش أكثر وضوحاً اليوم، فقصة الفرد في غزة تصنع قصة الجماعة.

المساهمون