استمع إلى الملخص
- **التغطية التقليدية مقابل التغطية الإنسانية:** التغطية التقليدية تركز على تطورات الأخبار وتفقد عمقها الإنساني، بينما التغطية الإنسانية، مثل استضافة ناجين من المحرقة، تضيف بُعداً عاطفياً للأحداث.
- **قصص الضحايا وتأثيرها العاطفي:** استضافة ناجين مثل محمد أبو القمصان والدكتورة جمانة تقدم قصصاً إنسانية مؤثرة، مما يعمق تأثير المأساة على المشاهدين.
ليس من مهمة وسائل الإعلام نقل الخبر وحسب، بل إعادة إنتاجه، ووضعه في سياقٍ يحوّله إلى قصة. وتلك ذروة الخبر في العمل الصحافي. وقد تكون القصة محض إخبارية، وقد تكون عملاً استقصائياً معقداً، أو مقالاً يمزج بين الخبري والتحليلي المركّب، الذي يُعيد بناء الخبر في سياقات متعددة، بالغة الثراء وربما التعقيد، مثل المقال البديع لسوزان سونتاغ عن سجن أبو غريب.
على أن هذا لا يتوفر بيُسر في الصحافة السيّارة أو قنوات التلفزيون التي تجد نفسها مضطرةً، في خضم الأحداث الكبرى، إلى البث المباشر، فتهدر بذلك فرصاً لا تعوّض لإنتاج قصص تبقى حتى بعد انتهاء زمن الخبر نفسه. وفي المذبحة أو المحرقة المفتوحة على بؤس الإنسانية كلها منذ قابيل إلى نتنياهو، ثمة كثير مما هُدِر وكان بالإمكان استثماره، ولو جزئياً، لصالح الضحايا، لكن التركيز على ملاحقة الخبر وتطوراته أفرغ المأساة من دراميتها وعمقها، وبالتالي تأثيرها، وحوّل الضحايا إلى "أرقام"، والمذبحة إلى حرب بين "طرفين"، يفوز فيها من يكبّد الطرف الآخر أكبر "عدد" من القتلى، وهو ما أفقد هذه التغطيات البُعد المطلوب منها، أي الرسالة والتأثير، وهذه كارثة.
قبل أيام قليلة، فعلت فضائية التلفزيون العربي، التي تبثّ من الدوحة، ما يخالف ذلك، فبمناسبة تجاوز عدد الشهداء 40 ألفاً، استضافت ناجين من المحرقة في استوديوهاتها. لم يكونوا ضيوفاً بالمعنى التقليدي، بل ظهروا شركاء في النشرات، في قراءة العناوين، وفي رواية أحداثهم هم، قصصهم الصغيرة، الشخصية، التي تتكثّف فيها قصة شعبهم الكبيرة؛ شعب ذبيح يتعرّض إلى واحدة من أسوأ الإبادات في التاريخ.
هذا خروج عن مألوف التغطيات السيّارة، فعلى وسائل الإعلام، خاصة إذا كانت كبرى، ألا تستسلم لإكراهات البث المباشر، إذ عليها أن تتوقف قليلاً، وتستوقف المتلقي لتروي له قصتها التي انتقتها وانتخبتها، لتقول له نحن نبث كل هذا لنقول لك إن الضحايا بشر مثلنا، فهذا الذي يجهش بالبكاء له اسم هو محمد أبو القمصان، وله قصته التي نودّ إخبارك بها لتعرف أي مأساة تُتابِع. إنه أحد الغزّيين الذين قد تراهم يركضون خلف سيارات الإسعاف، لكنه هنا يحمل شهادتي ميلاد ويبكي، ويكاد يقع أرضاً من هول ما حدث معه، فشهادتا الميلاد هما لطفليه التوأم، ولقد استخرجهما قبل فجيعته الكبرى عندما عرف أن طفليه استشهدا في الوقت نفسه الذي كان يستخرج فيه شهادتي ميلادهما.
هل ترى أيها المشاهد هول المأساة وقد تكثفت على نحو لا يحدث إلا في هذه المذبحة، حيث يُقتل أطفال الغزّيين عندما تُستَخرج شهادات ميلادهم، وربما قبل ذلك.
حسناً أيها المشاهد الذي يتابع الأخبار على أريكته، في بيته، بين أطفاله، فالقصة لم تنته بعد، فأنت لا تعرف أن الرضيعين، وهما آسر وأسيل، ليسا الوحيدين الذي قُتلا غدراً وغيلة في هذا العمر، فهناك نحو 115 رضيعاً وُلدوا وقُتلوا خلال حرب الإبادة هذه، بينهم نحو خمسين تزامن استشهادهم تقريباً مع إجراءات استخراج شهادات ميلادهم، أي أنهم قُتلوا ودُفنوا قبل أن يلثغوا بأول كلمات الطفولة، وقبل أن يتلقوا أي لقاح طبي، وقبل أن يسعوا إلى المشي فيتعثروا ويقعوا أمام ضحكات آبائهم وأمهاتهم، وقبل أن ترى عيونهم هذا العالم الكبير الذي لا يراهم إلّا قتلى.
حسناً أيها المتلقي، لم تنتهِ القصة هنا أيضاً، فالأم أيضاً قُتلت. هل ترى صورتها؟ هل ترى امرأة جميلة في هذه الصورة؟ نعم، واسمها جمانة، وهي دكتورة، وأنجبت طفليها في عملية قيصرية صعبة، وهل تعرف أين؟ هنا في هذه المنطقة من مدينة دير البلح، حيث نزحت وزوجها من مناطق شمال غزة إلى وسطها، هرباً من الموت، لكن إسرائيل قتلتها وطفليها هنا، في المكان الذي أَمِلت أن يكون آمناً لها ولهما.
إذا رأيت هذا فعليك ألا تستغرب أن يجهش هذا الشاب الوسيم بالبكاء، فهنا فقد عائلته كلها، بعد أن فقد بيته قبل ذلك، ولا منجاة في حرب الإبادة هذه لهؤلاء كلهم، وهم بمئات الآلاف أيها المشاهد هناك، الجالس على أريكتك، في بيتك، بين أطفالك، تتابع ذبح شعب كامل على شاشات التلفزيون.
تلك قصة من بين آلاف أهدرتها قنوات التلفزيون العربية للأسف.