قصر الباشا... الاحتلال يواصل عدوانه على التاريخ

13 يناير 2024
ما تبقى من القصر (فرانس برس)
+ الخط -

حمل المبنى المعروف باسم قصر الباشا، في حي الدرج في مدينة غزة، أسماء عدة، من بينها دار السعادة، وقصر آل رضوان، ودار نيابة غزة، والديباويي. وحطّ فيه نابليون بونابرت لأيام معدودة. وبات منذ عام 2010 متحفاً يضم مقتنيات نادرة، تعكس عراقة المدينة الفلسطينية الساحلية، ودورها الحضاري والتاريخي.

في الأيام الأخيرة من العام الماضي، أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية في تقرير لها، عن تدمير الاحتلال الإسرائيلي القصر الأثري الذي يعود بناؤه إلى العصر المملوكي، وتحديداً في زمن الظاهر بيبرس، عام 1269 للميلاد، إذ يُستدل على ذلك بشعار الظاهر بيبرس الموجود على مدخله الرئيس، وهو عبارة عن فهدين متقابلين؛ الشعار الخاص للظاهر بيبرس.

كان القصر مقراً لنائب المدينة في العصرين المملوكي والعثماني، وهو، وحتى ما قبل تدميره، كان متحفاً، فيما نشر مدوّنون وناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، أن شعار قصر الباشا، سُرق في وقت لاحق، لشركة بيجو الفرنسية لصناعة السيارات.

كانت بلدية غزة، قد كشفت في التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2023، عن تدمير إسرائيلي واسع طاول أجزاء من مبنى قصر الباشا الأثري، مشيرة إلى أنها "اكتشفت تدمير جيش الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من قصر الباشا الأثري، في إطار حرب إسرائيل على التراث والتاريخ الفلسطيني، والاستهداف المتواصل لتراث غزة، فهو يأتي بعد تدمير مركز رشاد الشوا الثقافي، وأرشيف بلدية غزة، وغيرها".

وأدانت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية "تدمير قوات الاحتلال الإسرائيلي لموقع قصر الباشا في حي الدرج في المركز التاريخي لمدينة غزة"، مشيرة في بيان إلى أن "هذه الجريمة تضاف إلى جرائم أخرى ارتكبها الاحتلال في عدوانه على الشعب الفلسطيني، حيث دمر قبل ذلك مجموعة من المواقع والمعالم الأثرية مثل ميناء غزة القديم، وكنيسة برفيريوس، ومسجد جباليا، ومجموعة كثيرة من المباني التاريخية والمتاحف وغيرها".

واعتبرت الوزارة هذا الاستهداف "جزءاً من مخطط الاحتلال لطمس وتدمير التراث الوطني الفلسطيني الذي يدل على ارتباط الإنسان بأرضه ويعزز بقاءه"، داعية "المجتمع الدولي والمنظمات المعنية إلى حماية المواقع الأثرية لإلزام الاحتلال بوقف عدوانه على الشعب وتراثه".

وأشارت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في تقرير حديث لها، إلى أن "قصر الباشا هو المبنى الأثري الوحيد في غزة الذي احتفظ بتفاصيله القديمة كما هي، إذ لم يتأثر بالتغيرات المناخية بشكل كبير، كما ساعده في ذلك الاهتمام العثماني والتركي بالمباني التي تعود لحضارتهم".

وأشار التقرير إلى أن نابليون بونابرت أقام داخل القصر ثلاثة أيام فقط، ثم أكمل طريقه نحو أسوار عكا، كاشفاً أنه في حقبة الانتداب البريطاني (1917 - 1948)، تحول القصر إلى مركز للشرطة، وخُصصت غرفتان صغيرتان تحت أرضيته لأغراض التوقيف؛ الأولى كانت خاصة بالنساء والأخرى للرجال، فالبريطانيون عمدوا خلال فترة احتلالهم لفلسطين إلى تدمير معظم البيوت الأثرية في غزة، إذ تعرّض القصر للتدمير المتعمّد، ما أدى إلى تقلّص مساحته إلى نحو 600 متر، تبقى منها جزآن معماريان مُنفصلان عن بعضهما بعضا؛ أولها كان يعرف باسم الـ"سلاملك"، وهو لفظ عثماني يطلق على الجزء المُخصص للرجال، والثاني "الحرملك"، المخصص للنساء.

وحتى قبل تدمير الاحتلال، كانت هذه العمارة الإسلامية تحتفظ ببعض من تفاصليها العريقة التي تجسد الحضور اللافت للمماليك والعثمانيين في غزة. وبعد خضوع قطاع غزة للإدارة المصرية، بعد احتلال عام 1948 وحتى عام 1967، وتحديداً في فترة حكم الملك فاروق، تحوّل القصر إلى مدرسة للفتيات، أطلق عليها اسم "الأميرة فريال"، نسبة إلى زوجته. وبعد ثورة 1952، في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تغير اسم المدرسة إلى "فاطمة الزهراء". وبعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تهمّش هذا المكان، فبات مهجوراً تماماً، قبل تأسيس السلطة الفلسطينية التي قررت فصل المدرسة عن المبنى وإعادة ترميمه عام 2005.

وعام 2010، تحوّل الطابق السفلي من مبنى "السلاملك" إلى متحف يجمع عدداً من القطع الأثرية التي تعود إلى حضارات من أزمة قديمة توالت على فلسطين. ومن بين أبرز مقتنيات متحف قصر الباشا على قلتها وعلوّ قيمتها، نموذج لتمثال أنجزه الفنان مايكل أنجلو للملك داود، وقطعة فخارية رسم عليها طائر البجع، تعود إلى العصر الفلستي، ومخطوط مزامير داود الذي يقدر بأن عمره يتجاوز الألفي عام، وكتب بالأرمنية القديمة، ويضم تسابيح وتهاليل وترانيم النبي داود، علاوة على مخطوط للقرآن، يعود للفترة العثمانية وصل إلى غزة من بغداد، وهو مصنوع من ورق البردي، علاوة على خوذ حربية يرجّح أنها لجيش الظاهر بيبرس، وقطع نقدية وفخارية يونانية ورومانية وإسلامية من عصور عدّة، وأخرى قدّر مؤرخون أنها تعود إلى عصور قديمة في التصنيف البشري، إضافة إلى تمثال نصفي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبنادق تعود إلى ثوّار في غزة شاركوا في مواجهة قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية منذ عشرينيات القرن الماضي.

معمارياً، وحسب "رواق" (مركز المعمار الفلسطيني)، ومقره مدينة البيرة في الضفة الغربية، فإن أبواب القصر اتخذت من الأعلى شكل القوس، في حين صُمّمت أسقف الطوابق الأرضية منها على شكل القباب التي كانت تشتهر بها العمارة المملوكية، لافتاً إلى أن العثمانيين طوروا على العمارة المملوكية، فأدخلوا تعديلات على القباب أو أسقف المباني، التي دعّموها بجرار فخارية، فيما دمج المبنيان في واحد، كما أن الحجارة التي استخدمها المماليك كانت رملية، في حين استخدم العثمانيون الحجارة الجيرية والصخرية، أما النقوش التي زيّنت جدران القصر من الخارج، فقد تنوعت ما بين الزخارف الإسلامية النباتية كالسنبلة، أو الهندسية كالنجمة الخماسية أو الثمانية.

المساهمون