قرية غرنيكا الإسبانية: ما يجب ألا يتكرّر

14 ديسمبر 2023
من الوقفة الاحتجاجية في قرية غرنيكا (آندر غيلينيا/ فرانس برس)
+ الخط -

اشتعلت صفارات الإنذار في قرية غرنيكا الإسبانية، تلك التي قصفها النازيون في عام 1937، تضامناً مع قطاع غزة الذي يتعرض لقصف إسرائيلي وحشي، سوّى بيوته بالأرض، فوق رؤوس المدنيين. القرية الإسبانية التي تحوّلت إلى رمز عالمي لوحشية العسكر، تقف إلى جانب غزة؛ إذ شكل أنصار الحق الفلسطيني، بأجسادهم، علماً ضخماً لفلسطين، في منتصف الساحة التي تعرّضت إلى القصف.
القرية التي خلدها بيكاسو في لوحته الأشهر غرنيكا، والموجودة إحدى نسخها في بناء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك، تمثّل علامة على الوحشية العسكريّة، تلك التي يختبرها قطاع غزة الآن. استعاد الفنان الفلسطيني، الغزّي، محمد الحواجري، اللوحة الشهيرة في عام 2010، عبر عمل يحمل عنوان "غرنيكا غزة"، في مقاربة بين المدينة الفلسطينية، والقرية الإسبانية.
غرنيكا، قرية ولوحة، علامة على ما يجب ألا يتكرر، وعلى الشرّ بشكله الصرف. لكن، يبدو أن التاريخ لا يتذكر. ومجلس الأمن، الذي يقتني نسخة من اللوحة، واستخدمت فيه الولايات المتحدة حق الفيتو للوقوف بوجه قرار وقف إطلاق النار في غزة، لا يتذكر هو الآخر. وهذا ما حاولت التظاهرة التي أقيمت في القرية الإشارة إليه؛ إذ جاء في بيان الفعالية: "على العالم والتاريخ ألا يقبل غرنيكا جديدة... إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين". لكن، هل يكفي التذكير بوقف الإبادة بعد مرور أكثر من شهرين من هذا العدوان؟
اكتظاظ الأجساد في الساحة، ورفع العلم الفلسطيني، يثيران القشعريرة. الإبادة جريمة تتخطى الزمن، وتشمل الجميع. في كل مرة تتكرر، يجري اغتيال جزء من إنسانيتنا. واجتماع الأجساد وتكدّسها في الساحة، يبدو كما لو أنه علامة على وجود أولئك الذين ما زالوا ينتصرون للإنسان، لحقه الأبسط بالحياة، ذاك الحق المضمون في وثيقة حقوق الإنسان، التي احتفل العالم بالتزامن مع الفعالية في غرنيكا، بمرور 75 عاماً على توقيعها. تلك الوثيقة التي من المفترض أنها غيرت وجه العالم، لكن يبدو أن أثرها محصور في القارة العجوز ومواطنيها فقط. أما الباقون؛ فخارج هذه المعادلة.
ما حدث في غرنيكا يكتسب أهميته من المكان نفسه، لكنه تكرر في أكثر من عاصمة ومدينة في أنحاء العالم. المفارقة، إذن، تكمن في أن أشكال الاحتجاج والضغط التقليدية لم تعد ناجحة؛ فالمقتلة لم تتوقف. لعلّ الاحتجاجات في مرافئ السفن وقطع الطرقات على شحنات الأسلحة، يميل نحو الناشطية أكثر منه نحو التضامن، لكنه أكثر فعالية. لا نحاول هنا الاستخفاف، أو انتقاد الوقفة التضامنية، لكن هذا العالم الذي نحن فيه يتأمل المقتلة عاجزاً.
قسّم العدوان على غزة العالم بين مؤيد للحق الفلسطيني، وداعم للإبادة. هنا، أصبح سؤال "هل تؤيد الإرهاب؟"، يمثّل محاولة لنفي الحق بإبداء الرأي، ودفع كل من يؤمن بالحق الفلسطيني إلى خانة "الأعداء" و"المؤيدين للإرهاب". لكن، هل يمكن لكل هؤلاء الموجودين في أوروبا، وما يزيد عن ثلاثة آلاف شخص شكلوا كتلة بشرية تضامناً مع الشعب الفلسطيني في غرنيكا، أن يُتهموا بذلك؟ ما زال الخطاب الأوروبي يتفادى هذا السؤال. وربما هكذا يجب أن نقرأ ما حصل في غرنيكا، أي بوصفه علامة على أن أوروبا نفسها تواجه مشكلة آنية، وأهم مشكلة في تاريخها المعاصر ذاته، مشكلة تتلخص في أنّ "الإبادة يجب أن تبقى خارجاً، ليس داخل الحدود، وكل من يعترض، يُصنف داعماً للإرهاب".

شاركت في الفعالية الممثلة الإسبانية وبطلة مسلسل "لا كاسا دي بابيل"، إتزيار إيتونيو، لتنضم إلى قائمة طويلة من الممثلين والناشطين الذين وقفوا إلى جانب الحق الفلسطيني، أولئك الذين خاطر بعضهم بأعمالهم لأنهم قالوا أوقفوا الإبادة. وهذا بالضبط ما يجب أيضاً إعادة النظر فيه؛ حرية التعبير لم تعد مضمونة، ولم يعد أثرها قانونياً فقط، بل مهنياً، ويمكن أن "يُلغى" أي شخص بسببها. وهنا يأتي السؤال: هل أصبح رفض المجزرة مدعاة للإلغاء في عصر الهويات؟

المساهمون