"قتلة زهرة القمر": مقاربة سينمائية تُفكِّك التاريخ الأسود لأميركا

24 يناير 2024
"قتلة زهرة القمر": الوحش الأبيض يحتال على ابنة الأرض (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُثبت مارتن سكورسيزي (1942)، بعد كلّ فيلمٍ ينجزه، أنّه صاحب موهبة ومعرفة ومواقف، يملك المرجعية السينمائية المناسبة التي تؤهّله ليكون "خالداً"، نظراً إلى ما قدّمه من أفلام فاصلة، ذات محمول جمالي منوّع، لا يُستغنى عنها بمجرد الانتهاء من عرضها الجماهيري المحدود، بل تبقى وثائق بصرية، وحججاً فنية، يتمّ العودة إليها كلّ مرة، من محبّي السينما وصنّاعها؛ خاصة أنّه يعرف جيداّ كيف يختار مواضيعه، بل كيف يُجيد اقتناصها، وعندما ينضدها ويعالجها وينتهي منها، يقدّمها مثقلة بأسئلة محورية، تُشجّع على النقاش، وتفتح جراحاً قديمة، لم تندمل بعد، من أحداثٍ سوداء لم تسقط بالتقادم من قلوب كلّ من يحمل أوجاعهم ومآسيهم.

هذا فعله أيضاً في فيلمه الأخير، "قتلة زهرة القمر"، المعروض للمرة الأولى دولياً في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

صدفةٌ أنْ يتزامن عرض الفيلم مع ما يحدث حالياً من إبادة جماعية في قطاع غزّة. تتجلّى الصدفة في تناول الفيلم جزءاً مما تعرّض له الهنود الحمر (قبيلة "أوساج") من جرائم عنصرية وعرقية، وتصفيات جماعية وقتل وتشريد في عقود من الزمن، للاستيلاء على أراضيهم التي عمّروها منذ قرون، من الرجال البيض القادمين من أوروبا ودول أخرى، ليستقرّوا في أميركا، التي جمعت شتاتهم على أرضٍ لم تكن يوماً أرضهم. إنّها الجرائم نفسها، والأطماع والسبل نفسها، التي تحدث في فلسطين.

الزاوية العبثية في المسألة أنْ تكون أميركا طرفاً أساسياً في الجريمة الأولى، التي حدثت سنة 1920، وقبلها وبعدها، في أوكلاهوما ومدن أخرى؛ وطرفاً فاعلاً في الجريمة الجديدة، التي تجري حالياً في قطاع غزّة بعد قرن و3 سنوات. والغاية واحدة دائماً: توسّع وعنصرية ومال.

اقتُبس "قتلة زهرة القمر" من كتاب بالعنوان نفسه (2017، مع عنوان فرعي: جرائم قتل في أوساج وولادة "المكتب الفيدرالي للتحقيقات") للصحافي والكاتب الأميركي ديفيد غران، ينقل ما حدث لقبيلة "المياه المتوسّطة"، المعروفة بـ"أوساج"، التسمية التي أطلقها المستعمر الفرنسي عليها. عرفت القبيلة، التي تنتمي إلى السكان الأصليين، هجرات قسرية عدّة فرضتها عليها الجيوش الأميركية، واستقرّ بهم الحال في منطقة أوكلاهوما، بعد التوقيع على تسوية مع السلطات الفيدرالية. لكنّ واقع الحال تغيّر كلّياً بين عامي 1920 و1930، بعد اكتشاف النفط في أراضيهم، ما جلب لهم جشع الرجل الأبيض الباحث عن المال والربح السريع، فمارس جرائم تصفية بحقّ كثيرين منهم، لتحويل ملكية الأراضي والأسهم إلى جهات معيّنة من البيض، ولفائدة شركات النفط التي ملأت المكان، ما عرّض حياة "أوساج" إلى خطر كبير، وحتّم على فئة واسعة منهم الهجرة إلى أماكن أخرى، لتجنّب القتل، بينما تحوّلت حياة من بَقِي إلى مَشاهد رعب لا تنتهي، وسط تلك الجرائم الكثيرة.

 

 

هذا حدث مع الشابة الجميلة (أوساج)، مولي بوركهارت (ليلي غلادْستون، "غولدن غلوب" أفضل ممثلة في فيلم درامي، 7 يناير/كانون الثاني 2024)، بعد فقدانها معظم أفراد عائلتها في جرائم متفرّقة: رمياً بالرصاص، كالحاصل مع أختها آنا براون (كارا جايد مايرز)، أو تسميماً، كما حدث لوالدتها ليزي كيو كايل (تانتو كاردينال)، أو بتفجير المنزل بالديناميت، كحال منزل أختها الثانية رَتَا (جاني كولينز)، التي قتلت مع زوجها بِلْ سميث (جايسون إيزْبل). كلّ هذا لتحويل الأسهم إلى مولي، حتى تكون الوريثة الوحيدة والحصرية، بالتواطؤ مع زوجها الأبيض إرنست (ليوناردو دي كابريو)، الذي وضع لها مواد مُخدِّرة في دوائها، لتبقى عاجزة عن الحركة والتفكير. هذه جرائم شارك فيها شقيقه بايرون (سكوت شيبرد)، بتحريضٍ من عمّه الجشع وليام كينغ هايل (روبرت دي نيرو)، الذي يُعتَبر العقل المدبِّر، وسبب معظم تلك الجرائم، بتحريضٍ وتخطيط منه.

استطاع سكورسيزي (كتب السيناريو مع إريك روث) صوغ مقاربة سينمائية دقيقة للغاية، بعد إخراجه قضية محلية، حدثت قبل أكثر من قرن، الى الواجهة مجدّداً، مُثيراً نقاشاً حولها، وحول التاريخ الأسود لأميركا مع الأقليات. أكثر من هذا، أثّثها بصيغ جمالية ومعرفية، استلّها من حيزها الجغرافي الضيق، ووضعها في أفق أوسع وأرحب، جاعلاً الفيلم قالباً جاهزاً يُستعان ويُستدَلّ به في قضايا العنصرية والعرقية في حقّ الأقليات وأصحاب الأرض، كالإسقاط الوارد أعلاه بخصوص التماثل مع ما يحدث حالياً في قطاع غزّة. سكورسيزي أكثر ذكاء أيضاً، بتوظيفه ومروره على خبر الإبادة الجماعية، التي تعرّضت لها المدينة الأميركية "تولسا"، التي باتت تُعرف تاريخياً بـ"مذبحة تولسا"، التي نفّذها البيض بدعم من السلطات: حرق بيوت ومتاجر ومصانع المدينة التي يقطنها السود؛ قتل السكّان واعتقالهم. أشار سكورسيزي إليها بطريقة فنية، وبشكل عابر، بعرضها في قاعة سينمائية، وفي الوقت نفسه حدَّد بها زمن الأحداث (1921). كأنّه يقول إنّ العنصريةَ سلوكُ دولةٍ، وأمر مدروس قبل أن يكون عابراً.

خلق سكورسيزي مقاربات جمالية متنوّعة، أهمّها براعة توفير الشرط التاريخي لقضيته، وتأثيثها بما يلزم، من ديكور ملائم وألبسة وإكسسوارات. أشياء خلقت اطمئناناً بصرياً، وأعطت للموضوع مصداقية وتبريراً درامياً. كما أنّه تطرّق إلى قضية "أوساج" بأريحية مطلقة، عكستها المدة الزمنية للفيلم (206 د.). هذا إثبات آخر على حُسن تدبير وتسيير تلك المدة، بالمحافظة على مستوى الصراعات الدرامية والبناء العام للفيلم، ما سهّل التلقّي والتقبّل الشاملين.

لم يخرج سكورسيزي من عوالمه الإخراجية السابقة، كحبّه للمجاميع البشرية، وحُسن تسييرها وتحريكها في المناظر الخارجية. كما صوَّر بعض مظاهر العنف وركّز عليها، واهتمّ بالشخصيات، وحافظ على انسجامها، خاصة بالاعتماد على الممثلين أنفسهم تقريباً الذين اعتدناهم في معظم أفلامه، ربما لأنّه يعرف مصادر مواهبهم في التمثيل، ويُحسن إدارتهم في مواقع التصوير، كدي نيرو ودي كابريو تحديداً. كما أنّ لديه عشقاً خاصاً لقضايا التاريخ الكبرى.

"قتلة زهرة القمر" من الأفلام التي حافظت على المسافة بين الجمهور والأبعاد الفنية الأساسية، أي أنّه حافظ على العناصر التي تعطي الفيلم قيمته الجوهرية والسينمائية. وفي الوقت نفسه، استطاع خلق عناصر الفرجة التي يحبّها الجمهور، بمزج صعب حقّقه سكورسيزي، وهذا معطى أساسي لا يأتي بسهولة. أي أنْ تعرف ما يحبّه الناقد السينمائي وما يرغب فيه الجمهور. لذا، جاء الفيلم مُفعماً بالحيوية، وسلساً ومليئاً بالمفاجآت والقصص والأحداث، ويُدين عنصرية أميركا صراحةً، ويؤكّد أنّها تأسّست على دماء الآخرين وأرواحهم.

المساهمون