"قاتل مأجور"... أكثر من أي شيء آخر

16 أكتوبر 2024
العمل من بطولة غلين باول (نتفليكس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "قاتل مأجور" للمخرج ريتشارد لينكلاتر يمزج بين الكوميديا والجريمة والفلسفة، مستندًا إلى قصة حقيقية عن غاري جونسون، أستاذ الفلسفة الذي يساعد الشرطة في القبض على من يستأجرون قتلة مأجورين، مما يتيح له فرصة لاكتشاف هويته.
- تتعقد الحبكة عندما تطلب ماديسون من غاري قتل زوجها، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث تجمع بين الكوميديا الرومانسية والتوتر الدرامي، وتتحول إلى كوميديا سوداء تتناول قضايا الهوية.
- يتميز الفيلم بأسلوب سينمائي يكرم مخرجين كبار، ويقدم تجربة تجمع بين الكوميديا الذكية والدراما، مع نقد للمؤسسات مثل الشرطة.

في تقليد أفلام القتلة المأجورين، هناك طرق عدّة للتعامل مع مواضيع وشخصيات كهذه. هناك الفلسفة المنهجية، كما في "القاتل" (2023) لديفيد فينشر، والنسل الكامل الذي سبقه من "الساموراي" (1967) لجان ـ بيار ملفيل، إلى شخصية توم كروز في Collateral لمايكل مان (2004). هناك إجراءات شرطية بكلّ متغيّراتها وخصائصها، وكوميديات ساخرة، كـ"أطلق النار على الهدف"، تمثيل جون كوزاك، إذْ يُنظر إلى هذه المواضيع من وجهة نظر فكاهية.
"قاتل مأجور" (Hit Man) جديد المخرج ريتشارد لينكلاتر فيلم كوميدي خفيف، وجريمة نوار (Noir)، وفلسفي، يستخدم شخصية القاتل المأجور كلعبة ـ فكرة ـ استعارة، أكثر من أي شيء آخر.
فيلم مُضحك وذكي، عطفاً على كيمياء بين البطلين تليق بالكلاسيكيات العظيمة للعصر الذهبي لهوليوود. مزيج فكاهة بسيطة ومُعقّدة في آن، يغدو فيلماً لذيذاً رائعاً. كوميديا رومانسية تستمد أفكارها من أفلام ثلاثينيات القرن العشرين، وأفلام نوار في أربعينياته وخمسينياته، وإعادات وتنويعات تلك الأنواع المنتجة في ثمانينياته. ورغم أنّه بفضل تأثير كوينتن تارانتينو، عاد النوار بقوّة في تسعينياته، فـ"قاتل مأجور" يميل إلى الخِفّة لا المنطق القديم لأفلام، كـ"متزوجة من المافيا" (1988) و"شيء وحشي" (1986)، كلاهما لجوناثان ديم، أو "شرف بريزي" (1985) لجون هيوستن، أكثر من ميله إلى النهج السينيفيلي والتكراري الظاهر لاحقاً في أفلام حاولت جمع الجريمة بالكوميديا.
لا قتلة مأجورين في "قاتل مأجور" للمفارقة. ربما هذا الفارق الكبير، أو نقطة البداية للنظر إلى الأمر بطريقة مختلفة. تتلاعب الحبكة بفكرة مثل هذه الشخصية، وما تثيره في العالم الحقيقي. تعتمد القصة، مع حريات كثيرة، على شخصية حقيقية، يُهدى الفيلم إلى ذكراها، ولكنْ للسماح لبطلها بالدخول في لعبة، في مسعى غير متوقّع إلى إيجاد طبيعته/هويته الحقيقية. النجم الصاعد غلين باول يؤدّي دور غاري جونسون، أستاذ الفلسفة في جامعة نيو أورليانز، الذي يساعد الشرطة المحلية في أوقات فراغه بخبرته. موضوعه المفضَّل في فصوله الدراسية (الفلسفة وعلم النفس) له علاقة بالهويّة والذات: أيمكن للمرء تغيير هويته، أم إنّه مُقدَّر له ومحكوم عليه العيش بهذه الطريقة إلى الأبد؟
ما يثير الفضول في هذه القضية أنّ جونسون محكوم عليه بحياة رمادية: مُطلّق، يعيش مع قطط وطيور، وحيدٌ، لا حياة اجتماعية له تقريباً. يتزيّا ويمشي كرجل مُتحفّظ، من دون طموحات وعواطف واضحة. طبعاً، يظهر باول في كواليس عمله، ويُعرَف أنّه لن يصعب عليه تغيير ملابسه وتسريحة شعره ليكون محبوباً، لكنّه مُقنع، بفضل التعليق الصوتي، بأنّه بخير كما هو، وأنّه لا يحتاج إلى شيء آخر ليكون سعيداً. يخدع نفسه، لكن إمكانية تغيير أي شيء لن تظهر إلا عندما يُوقف زميله غاسبر (أوستن أميليو)، الشرطي المسؤول عن القبض على من يستأجر قتلة مأجورين، ويتعيّن على غاري أنْ يحلّ محله.
تتمثل المهمة في انتحال شخصية أحد هؤلاء المجرمين، وترتيب لقاء مع مَن استدعاهم، وتصويرهم بالفيديو أثناء قيامهم بالتماس الجريمة ودفع ثمن المهمّة. لا أحد يعتقد أن غاري يمكنه القيام بهذا جيّداً، ولا حتّى هو نفسه. لكنْ، تبيّن أنّ الرجل ممثل جيد، يقبض على عشرات الأشخاص الذين يريدون التخلّص من آخرين لأي سبب. يحبّ هذه الذات الأخرى كثيراً، إلى درجة أنّه يبدأ دراسة عملائه المُحتملين، ويقدّم لهم مظاهر وشخصيات مختلفة، وهذا استخدمه باول ولينكلاتر (كاتبا السيناريو) في النصف الأول من الفيلم، لتقديم مواقف عبثية وغريبة عدّة.
ثم يأتي التحدي الأكبر، كحال أيّ فيلم كلاسيكي جيّد: امرأة تدعى مادِسون (إدريا أرغونا) تريد استئجاره لقتل زوجها، الذي تُصوّره عدوانياً ومستبدّاً، ولا يدعها تتنفسّ. غاري، بعد بحثٍ عنها في الإنترنت (ويبدو أنّه معجبٌ بها)، يصل "مُتحولاً" إلى رون، في نسخةٍ مغرية ومثيرة من نفسه. هناك جاذبية من النظرة الأولى، ومع معرفة تاريخ المرأة، يشعر غاري/رون بالشفقة ويخبرها ألا تُعيّنه (إذا فعلت، سيتعيّن عليه اعتقالها)، واستخدام المال للهروب من زوجها المُسيء. هذا فعلته بنجاح. تبدأ المشكلة لاحقاً، عندما تتصل به لتشكره، فيتقابلان. شيءٌ يؤدّي إلى آخر، وتبدأ علاقة مليئة بالأكاذيب التي لن تقف عند حدود هوية غاري وحده.
هكذا يصبح الفيلم كوميديا رومانسية مثيرة. يبدأ كلاهما علاقة مُكثّفة ومرحة. لا يستطيع أحدهما رؤية الآخر إلا خلف أبواب مغلقة. لكن، يُصبح كلّ شيء مُعقّداً، عند ظهور زوجها السابق، وعودة غاسبر الذي يريد استعادة وظيفته كقاتل مزيّف إلى العمل. تحدث أشياء غير متوقّعة، فتنقل الأحداثُ الشريط إلى فيلم نوار نموذجياً، من دون التخلي عن النغمة الكوميدية الخفيفة. يُصبح الفيلم كوميديا أكثر سواداً، وتصبح قضايا الهوية التي يثيرها غاري في فصله أوضح، ما يُحوّل الفيلم بطريقة غير مباشرة إلى انعكاس لعلم النفس، بين الهوية والذات والأنا العليا، وهذه مفاهيم يطرحها الأستاذ على طلابه، بينما يسألها لنفسه فعلياً.
في أكثر أفلامه "سودربيرغية"، نسبةً إلى مواطنه ستيفن سودربيرغ (أحياناً تعتقد أنّك تشاهد فيلماً قديماً لسودربيرغ، كـOut of Sight, 1998)، الذي يشترك معه في نقاطٍ عدّة، يبني لينكلاتر كوميديا بوليسية رشيقة وممتعة، مع مشاهد أنطولوجية وكيمياء بين الأبطال، تُخرج الفيلم من أي حفرة وتناقض سردي يقع فيه.

في مرحلة ما، تصبح معقولية الحبكة ثانوية بالنسبة إلى التوتّر الجنسي الواضح بين غاري ـ رون وماديسون. سيؤدّي ذلك إلى اتباع المُشاهد لهما (والوقوف معهما) حتى عند دخول الأشياء إلى منطقة مظلمة وعنيفة بطريقة غير متوقّعة. وكسودربيرغ أيضاً، يعيد لينكلاتر التدوير، ويُكرِّم الأساتذة إرنست لوبيتش وبيلي وايلدر وغيرهما، لخلق شيء معاصر وحيوي.
بعيداً عن نبرته التجارية، الأقرب في الروح إلى فيلمه "مدرسة الروك" (2003)، حَوَّل لينكلاتر "قاتل مأجور" إلى انعكاس يشمل أيضاً أفكاراً عن السينما والخيال، والتمثيل (في الحياة)، والأدوار التي يلعبها الناس في المجتمع، وكيف يضع هذا أحياناً حدوداً لرغباتهم الحقيقية. ربما يكون الفيلم كلاسيكياً في بنائه، لكنْ ينتهي به الأمر تخريبياً تماماً بما يقترحه، والأفكار التي يلعب معها بخصوص المؤسسات (الشرطة، من دون الذهاب أبعد من ذلك)، وما يقوله عن كيفية تمكّن الناس من التواصل في ما بينهم، بإطلاق غرائزهم الجامحة.
من دون أن يكون قديماً (يعتمد المشهد الرئيسي على استخدام الهاتف الخلوي)، في الفيلم شيءٌ من المدرسة القديمة، ومن الكوميديا الجذّابة والذكية والناضجة، مع ممثِّلَين في طريقهما ليصبحا نجمين. هذا شائع إلى تسعينيات القرن العشرين على الأقل، يبدو أنّه اختفى من الشاشات. بفضل لينكلاتر وآخرين قلائل، لا تزال هذه الأفلام موجودة.

دلالات
المساهمون