في رحيل دلال عبد العزيز: أتكون الخشية من عتمةٍ لا من موت؟

11 اغسطس 2021
دلال عبد العزيز في جنازة جورج سيدهم (29 مارس/ آذار 2020): رحيلٌ تلو آخر (فرانس برس)
+ الخط -

 

في إحدى لقطات "عصافير النيل" (2010) لمجدي أحمد علي، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لإبراهيم أصلان، تطلب نرجس (دلال عبد العزيز) من زوجها البهي محمد أحمد عثمان (محمود الجندي)، أنْ يضع لمبة صغيرة في القبر عند وفاتها، فهي تخشى العتمة، وتريد ضوءاً ولو قليلاً يُزيل بعض خوفها هذا، ريثما تعتاد عتمة النهاية. جملةٌ قليلة الكلمات ـ تقولها امرأةٌ تتحمّل مصائب الدنيا وتبدّلاتها، كمن يواجه أقداراً وتحدّيات كي تمضي حياتها بأقلّ قدر ممكن من الهزائم والخيبات ـ تعكس شيئاً كبيراً من علاقة الفرد بالموت ورموزه، كالقبر والعتمة والفراغ والخوف. كأنّ الجملة تلك تُكثِّف، في ثوانٍ قليلة، ما يُناقض تفكيراً تقليدياً بالموت، وما ينقضّ على خُرافة الخلاص والراحة. فالراحة، بالنسبة إلى نرجس، تكمن في نورٍ ـ ضوء (للمفردتين تعابير أعمق من أنْ تكون مجرّد نور/ ضوء، بالمفهوم الشعبي العادي)، يحتاج المرء إليهما في عتمة المجهول.

في تلك اللقطة، تكشف دلال عبد العزيز (1960 ـ 2021) شيئاً عميقاً من حسٍّ بشريّ صادق وشفّاف إزاء موتٍ، يُصيبها في 7 أغسطس/ آب، بعد أشهرٍ من معاناة مريرة مع وباء كورونا، ورحيل زوجها سمير غانم، وبقائها وحيدةً في مجاهل العزلة والوحدة والمتاهة. أتكون نرجس حاضرةً معها في تلك الأيام القاسية، بما فيها من عتمةٍ وانكفاءٍ قاسٍ لكلّ متعة واشتغال وحضورٍ، يتنوّع بتنوّع أدوارٍ ومسائل وعلاقات، في السينما وخارجها؟ ممن تطلب دلال/ نرجس وضع لمبة في قبرٍ، يكون نهاية عمرٍ ومهنةٍ وحبٍّ وارتباكات ومصاعب وأحلامٍ ومُتعٍ وتناقضات؟ من هي الراحلة الآن: نرجس، أم دلال عبد العزيز، التي تؤدّي دور أمٍّ قلقةٍ من ارتباطات عاطفية بين ابنةٍ، ومن تظّنه الابنة حبيباً، في "أسرار البنات" (2001) لأحمد علي أيضاً؟

مع بثّ نبأ وفاتها، يخطر في البال هذان الفيلمان لمجدي أحمد علي، تكون دلال عبد العزيز نواة أساسية في تشكّلهما الدرامي والجمالي، وفي سردهما حكايات أناسٍ يُقيمون على الحافة الأخيرة لعيشٍ يُصاب بانقلابات، فإذا بالبعض يخشى انقلاباً على واقعٍ باهتٍ، لن ينجو من خرابه إلاّ بانقلابٍ دامٍ عليه، وإذا بالبعض الآخر يُكافح لنجاةٍ منشودة من خوف البعض الأول من كلّ تبدّل وخلاص.

لكنّ دلال عبد العزيز، في جانبٍ آخر من سيرتها المهنية، غير فاعلةٍ كلّياً في استكمال ما لديها من قدرة على أداء يُبهر، وعلى تمثيلٍ يخترق بعض المخبّأ في ثنايا روحٍ وقلبٍ ونفسٍ. تلك السيرة مليئة بعناوين تتوزّع على السينما والتلفزيون والمسرح والإذاعة، وبعض الأعمال مرتبطٌ بالـ"فوازير"، إلى حدّ يستحيل التوقّف عندها كلّها، لكثرتها أولاً، ولفقدان بعضٍ غير قليلٍ منها لهيبة الأداء والدراما والنصّ والمعالجة، ثانياً. وهذا، إذْ يقول شيئاً من واقع، غير متمكّن من نفي ما تمتلكه دلال عبد العزيز من طاقة اشتغال، ومن تمكّن الحرفية في بلورة اشتغالها هذا، رغم أنّ عناوين سينمائية عدّة لها أقلّ أهمية وتشويقاً وتحفيزاً على التفكير والتأمّل من غيرها.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تلك الكثرة، المُنجزة بدءاً من عام 1977 (بحسب مراجع صحافية مصرية)، تحثّ على سؤال مرتبطٍ بثنائيةٍ، تبقى أساسية في صناعة الفنون البصرية والسمعية: هل تحول الوفرة دون براعةٍ دائمةٍ في اشتغال، يجمع المهني ـ الاحترافي بتجديدٍ وتطوير وبلورة؟ أم أنّها عاملٌ، من عوامل عدّة، يُساهم في صُنع تجديدٍ وتطوير وبلورة، في المهني والاحترافي معاً؟ لن تكون دلال عبد العزيز وحيدةً في هذا. ممثلون وممثلات كثيرون يبدون كأنّهم يملأون سيرهم الحياتية والمهنية بأكبر عددٍ ممكن من العناوين، بينما البعض القليل من تلك العناوين قابلٌ لأنْ يكون ممتعاً ومُثيراً للتفكير، وممتلكاً مفرداته المهنية والتقنية والفنية، إنْ تكن العناوين كوميدية أو درامية، وإنْ تكن مواضيع العناوين منفلشةٌ على الاجتماع والعلاقات والمشاعر والمسائل المختلفة للحياة اليومية.

هذا لا علاقة له بالأنواع. لدلال عبد العزيز خفّةٌ كوميدية طيّبة وهادئة، تحاول رفعها إلى مرتبة إضحاكٍ يتجاوز النكتة أو السخرية المبسّطتين. لها في الدراما باعٌ يتفوّق على كلّ شيءٍ آخر، رغم قلّتها. وفرة العناوين والاشتغالات تقول إنّ هناك رغبةً في حضورٍ دائمٍ، فالمهنة لعنة، وكلّ توقّف ـ ولو لوقتٍ قصير ـ يُغيِّب العاملين والعاملات في الفنون البصرية السمعية عن المشهد العام، ما يؤدّي إلى تقلّص الشعبية، وهذا ضرر في مهنةٍ ترتكز على الجماهيرية للاستمرار. لذا، يُصبح التنويع في الأنواع مقصوداً، والكثرة أيضاً، إذْ يجد هؤلاء فيهما فعلاً يوسِّع مساحةَ الشعبيّة، فالغالبية الساحقة من الناس تسعى إلى متعٍ لا علاقة لها بشيءٍ آخر، وندرة منهم تبغي نقاشاً عن أحوالٍ ومسالك وعيش.

يستحيل تسمية جميع العاملين والعاملات في السينما، المتعاونين مع دلال عبد العزيز، لتأدية أدوارٍ، يطرحون عبرها ومعها قضايا وقصصاً مختلفة. اختيار فيلمين لمجدي أحمد علي غير مرتبطٍ بنقدٍ يُكتب في رحيلها، بل بميلٍ ذاتيّ إلى عالمين، يختلف أحدهما عن الآخر، لكنّهما معاً يصنعان إحدى الصُوَر الجميلة لممثلةٍ، تغادر هذا العالم بعد وقتٍ قليلٍ على رحيل سمير غانم (20 مايو/ أيار 2021)، من دون أنْ يعرف أحدٌ إنْ تكن دلال عبد العزيز طالبةَ خدمةٍ أخيرة قبل الرحيل: "أرجوكم، لا تنسوا وضع لمبة صغيرة في قبري، فأنا أخشى العتمة".

لكنْ، أتكون الخشية، الأكبر والأخطر، من عتمةٍ، لا من موتٍ؟

المساهمون