في رثاء أغلفة الكتب ومديحها

16 سبتمبر 2024
أدرك نجيب محفوظ أهمية الغلاف والرسوم الداخلية في أعماله (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نجيب محفوظ كان يعتبر الكتاب نتاج تعاون ثلاثي بين الكاتب والمطبعة ومصمم الغلاف، مما يعكس تقديره العالي لقيمة الغلاف والرسوم الداخلية.
- جمال قطب كان أول من ارتبط تشكيلياً بمحفوظ، وبعد شراء دار الشروق حقوق نشر أعماله، أصبح حلمي التوني الرسام الأهم الثاني.
- أغلفة قطب كانت تعكس مقاربة وظيفية للرواية، بينما أغلفة التوني كانت لوحات منفصلة تعبر رمزياً عن النص، وأغلفة أحمد اللبّاد افتقرت إلى الروح التشكيلية.

يروي جمال قطب (1930 - 2016) وهو من أشهر رسامي أغلفة أعمال نجيب محفوظ، أن الأخير أبلغه عندما التقاه أول مرة أن الكتاب نتاج تعاون ثلاثي الأضلاع؛ يشكّل الكاتب واحداً منها، والآخران هما المطبعة ومصمم الغلاف، ما يعني إحساس محفوظ العالي بقيمة الغلاف والرسوم الداخلية في أعماله. تعود أهمية الحادثة أعلاه إلى كونها تؤرّخ لتطوّر صناعة الكتاب في المنطقة، ومنها فن تصميم الأغلفة وإعدادها وعلاقة ذلك بالتشكيل، خاصة أن تعاون الرجلين كان في منتصف ستينيات القرن الماضي، الذي شهد بداية الذروة في صناعة الكتاب العربي، في مصر ولبنان تحديداً، قبل أن يستحوذ الغرافيكس على الصناعة بأسرها في أيامنا هذه.
كان قطب أول من ارتبط تشكيلياً بنجيب محفوظ، فهو من رسم وصمّم أغلفة كتبه كلها، حتى تلك التي صدرت قبل بدء تعاونهما منتصف الستينيات، وأعيد نشرها لاحقاً. وبشراء دار الشروق حقوق نشر أعمال الروائي الراحل قبل وفاته، أصبح حلمي التوني (1934 - 2024) الرسام الأهمّ الثاني الذي منح أغلفة أعمال محفوظ هوية فنية مختلفة. وبهذا، قد يجوز القول إن جمال قطب لعب الدور نفسه الذي قام به صلاح أبو سيف في تعاونه مع محفوظ سينمائياً. ومما يرويه قطب، أن محفوظ لم يتدخل يوماً في أي من أغلفة أعماله التي صممها (قطب) ورسمها، وهو النهج الذي اعتمده في ما يتعلق بالأفلام المأخوذة عن رواياته، فلم يتدخل في أي من هذه الأفلام، بل لم يكتب السيناريو لأي منها على الإطلاق.
كان جمال قطب تشكيلياً بالأساس، لكن أغلفة الكتب التي رسمها لم تكن لوحات تشكيلية خالصة، بمعنى أنها لم تحافظ على استقلاليتها عن الكتاب نفسه، ما يعكس فهم قطب أو مقاربته تشكيلياً للرواية، وهي مقاربة وظيفية تقوم على إعادة تقديم شخوص الرواية واختزالها في بورتريهات تقترح على القارئ رؤية بصرية للنص بما يجذبه، من دون أن تستحوذ عليه جمالياً، أو تبتعد عن النص جذرياً، على خلاف ما فعله حلمي التوني لاحقاً، فأغلب أغلفة محفوظ التي نفذها الأخير يمكن التعامل معها بوصفها لوحاتٍ منفصلةً عن الكتب نفسها، ذلك أن التوني ابتعد كثيراً عن الدور الوظيفي للغلاف، فلم يعد بوابة للنص، أو تمثيلاً بصرياً فنياً له، بل تعبير رمزي موازٍ له، ما أنتج هوية بصرية قوية للكتب بعامة، تكاد تكون نمطية لأنها تتعلق بأسلوب الفنان أولاً وأساساً، وقبل محتوى النصوص، وهو ما افتقرت إليه أغلفة محفوظ في المحاولة الثالثة الكبيرة التي شهدتها كتب محفوظ، حين أوكلت دار الشروق لأحمد اللبّاد مهمة إعادة رسمها وتصميمها مجدّداً؛ فعلى إشكالات عملي قطب والتوني من حيث تغليب الدور الوظيفي على الجمالي أو العكس، فإنهما أنتجا هوية بصرية، ولنقل تشكيلية أكثر منها تقنية أو تركيبية - تصميمية، أي إنهما ظلا مشدودين إلى تغليب التشكيل على التصميم والسعي إلى الموازنة بينهما. 
أمرٌ أنسنَ الغلاف إذا صح الوصف، وبث فيه روحاً، سواء كانت روح الأسلوب التشكيلي أو روح شخوص النصوص، وهو ما أصبحت تفتقر إليه أغلفة الكتب في الآونة الأخيرة التي أصبحت في عمومها صناعةً خالصة، إذ يتسيّد الغرافيكس وتقنياته المقاربة الفردية التشكيلية لمصمم الغلاف، وهو ما تشعر به إزاء "فونت" الحروف (شكلها وسَمكها) في أغلفة الكتب الجديدة مقارنة بعناوين "القديمة" التي كانت تُكتَب بخط اليد.
لعل كتابة كهذه تندرج ضمن رثاء تلك الجماليات الآفلة لصناعة الكتاب، التي لم تكن تقتصر على الغلاف، بل على الرسومات الداخلية أيضاً، وأغلبها اسكتشات تعبيرية، ما كان يجعل الكتابة والرسم (التشكيل) متعالقين في متن واحد، في فضاء يفترض أنه إبداعي لا صناعي، يحفل بك قارئاً ويغازلك ويتودد إليك، بحيث كان يَعِدُ بتحويل الكتاب إلى تحفة مشغولة باليد، من أجلك أيها القارئ الذي يكاد ينقرض.
ومن المحاولات في ذلك أو أكثرها شهرة على الأقل، ما فعلته دار ومطابع الشرق المصرية في نهاية الستينيات، حين أصدرت نسخة جديدة من كتاب "ألف ليلة وليلة" في مجلدين، برسومات داخلية للفنان حسين بيكار (1913 - 2002)، وهي من أروع طبعات الكتاب التي حوّلته من نص إلى تحفة فنية أصبحت تباع في المزادات. ليتها تعود تلك الأيام.

المساهمون