الحياة العائلية وعلاقات الآباء والأبناء والأجيال المختلفة، هي مواضيع المخرج الياباني هيروكازو كوريدا المفضَّلة، والتي يخلِق منها أفلامه بعالمها الصغير، إذ تتردد داخلها أصداء طويلة للجمل البسيطة والأفعال اليومية، وتمتد إلى جوانب الحياة الأساسية والحاجة إلى الانتماء والرغبة بالأسرة والمنزل المستقر، حتى ولو كانت الأسرة مجموعة من الخارجين عن القانون.
لكوريدا ما يقارب الـ 28 عملاً بين سينمائي وتلفزيوني، أشهرها الحائز على السعفة الذهبية Shoplifters في عام 2018. وقد أَصدر أخيراً فيلم Broker (سمسار)، ليحافظ من خلاله على نهجه البصري والسينمائي، بتركيب قصص درامية لأشخاص على هامش المجتمع، وهو أول فيلم من إنتاج كوريدا ومحاولته الأولى أيضاً باتخاذ كوريا الجنوبية موطناً لفيلمه الناطق بلغتها.
يبدأ الفيلم خارج إحدى الكنائس في مدينة بوسان. المطر غزير والشوارع خالية تماماً. داخل سيارة مركونة في الخفاء، تُشاهد المحققتان يو جين (لعبت دورها باي دونونا)، ولي (أداء لي جو يونغ)، امرأةً شابة تدعى مون سو يونغ (لي جي إيون) تمشي إلى باب الكنيسة، تسحب ابنها حديث الولادة من تحت معطفها المطري لتضعه أرضاً، أمام ما يسمى "صندوق الأطفال"، المكان المخصص لوضع الأطفال حتى تعتني بهم الكنيسة، من دون الحاجة إلى التصريح عن هوية من تركه.
تترجل المحقّقة الأكبر سناً ورتبة من السيارة، تضع الطفل داخل الصندوق وتعود إلى السيارة لتُكمل المراقبة. المحققتان تتطلعان إلى كسر حلقة الاتجار بالأطفال، وذلك بالقبض على العصابة بالجرم المشهود. يظهر وجه الطفل، الوجه الأول الذي سنبدأ معه رحلتنا الميلودرامية. يقوم دونغ سوو (جانغ دونغ وون) بإخراج الطفل من الصندوق، وهو موظف بدوام جزئي في الكنيسة، يمسح مقاطع الفيديو التي التقطتها كاميرا الحراسة ويسلّمه إلى شريكه ها سانغ هيون (سونغ كانغ هو)، الذي اشتهر ببطولته للفيلم الكوري الجنوبي "طفيلي" الصادر عام 2019، وحصل على جائزة أفضل ممثل في "مهرجان كان" عن دوره في فيلم Broker.
هذه الافتتاحية الغامضة تضع المشاهدين في موقف حُكُم متسرّع. يتساءل بعضهم: هل من الأخلاقي الاستغناء عن طفل؟ ما الذي يدفع الأم للقيام بهذا العمل؟ بعد هجر الطفل، تقع جريمة خطفه ثم تبدأ أخطاء الجميع بالتكشف أحدهم تلو الآخر. ينحو العرض بعد الافتتاحية إلى ربط قصص الشخصيات وبدء الكشف عن الغموض، لكن لا المُخرج ولا فيلمه مهتمّان بإعطاء إجابات محددة أو أحكام أخلاقية.
كوريدا لا يبرر الجريمة. ولكونه سينمائياً له لغته وبصمته البصرية الخاصة، هو يقدم الأشخاص المحاصرين في هذا الحدث القاتم بأبعاد مختلفة وعميقة. هيون يدير محلاً صغيراً لخياطة الملابس وغسلها، ويدين بالمال لأفراد العصابات المحليين. يخطّط هو وشريكه دونغ سوو لبيع الطفل في السوق السوداء لعائلة ثرية. لكن ولسوء حظّهما، تعود الأم مون سو يونغ إلى الكنيسة لتسترجعَ ابنها، ما يُجبر الشريكين على إدخال الأم في مخطّطهم، وشراء صمتها مقابل مبلغ مالي مُجزٍ يسلم لها عند بيع/تبني الطفل. تصعد معهما في الشاحنة القديمة المليئة بالملابس، وينطلقون في رحلة البحث عن أسرة للطفل.
عند اللقاء الأول بين مون وهيون في المحل، سألها: "كيف تبررين التخلص منه؟". أجابت: "كيف تبرر بيعه؟". يذهب الحديث بعدها إلى سجال حول الإجهاض مقابل هجر الطفل: أيهما أقل خطيئة؟ يتوقف النبش الأخلاقي عند هذا الحد في العرض، وتنطلق بعدها الشخصيات في الشاحنة الصغيرة. المحققتان أيضاً تتبعان الشاحنة. يتحول العمل إلى "فيلم طريق" بكل ما تحمله الرحلة في السيارة من مجاز، وتكشف علاقات وأحلام وآمال وصعوبات.
مع بعض الكوميديا غير المقحمة، والتأملات الهادئة للشخصيات، بينما يقطعون مدناً وبلداتٍ كورية الجنوبية، تتشكل أسرة مؤقتة في الشاحنة. من دار الأيتام التي احتوت دونغ سوو في صغره بعد أن عرجوا عليها وهم في الطريق، يختبئ الطفل هاي جين في الشاحنة مع كرة القدم خاصته. انضمام الطفل وصدقه مهم للغاية، يكشف مشاعر الجميع بفجاجة طفولية، مضحكة بعض الأحيان وحزينة في أحيان أخرى.
يجمع المونتاج اللقطات القريبة للشخصيات الحزينة واللقطات الواسعة للطبيعة الخلابة، والأماكن والمدن المزدحمة، والشواطئ الصاخبة التي تتوزع ضمنها الشخصيات بقياسات دقيقة، وتمتد لزمن طويل نسبياً (المونتير هو كوريدا أيضاً)، لتصل بالمُشاهِد إلى تصعيد عاطفي مع إعطائه مساحة للراحة البصرية والاستمتاع وتدفق المشاعر. تتنقل العائلة المؤقتة بين مدن مختلفة في جميع أنحاء كورية الجنوبية. يلتقون مع أسر محتملة للطفل، لكن في كل مرة تجد مون شيئًا يدفعها للرفض. تُرفض العائلات الواحدة تلو الأخرى، ربما كان ضميرها. وحافظ ترددها على شعورٍ قلق يتأرجح بين الاحتفاظ بالطفل أو الاستغناء عنه مقابل المال.
للفيلم حبكة تتصاعد بشكل موتّر أكثر من باقي أفلام المخرج. أسباب عديدة ومعقدة لتصرفات الشخصيات تساهم في هذا التواتر السريع للأحداث. لكن يبقى الفيلم فيلماً كوريدياً، أي أنه فيلم بعيد عن الأكشن والتشويق التجاري. يستكشف كوريدا مشاكل المجتمعات البيروقراطية وأزماتها، وينسج قصص شخصياته في منطقة رمادية، يعتقد المشاهد أنه خرج منها عند تكشف الغموض ليعود به المخرج إليها بشكل دائم وكأنما جذور شخصياته نشأت من واقع أصم. لا يُجمل ظلام حياة الناس، ولا يشرح دوافع الأشخاص. كوريدا (مجازياً) وريث المخرج الياباني ياساجيرو أوزو، وهو اليوم عملة نادرة في السينما المعاصرة.