- المخرج البولندي ماتيوس ميسزينسكي يترجم هذه الأفكار إلى فيلمه القصير "ملح"، مستخدمًا البحر الميت كخلفية لاستعراض مفاهيم الهوية والانتماء، وموظفًا البطيخ كرمز للفلسطينية في مواجهة الصراع.
- الفيلم يعكس تجربة شخصية وجماعية مع الأرض والهوية، من خلال استخدام اللغة العامية والمشاهد اليومية، مثل تناول البطيخ على شاطئ مغمور بالملح، ليبرز العلاقة العميقة بين الإنسان ووطنه.
في كتابه "في حضرة الغياب"، الصادر عام 2006، يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941 - 2008): "وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التّوت، وقنّ الدّجاج، وقفير النّحل، ورائحة الخبز والسّماء الأولى.
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكلّ هذه المحتويات وتضيق بنا؟".
استناداً إلى هذا المقطع، أنجز المخرج البولندي ماتيوس ميسزينسكي (Mateusz Miszczyński) فيلمه القصير "ملح" (خمس دقائق)، الصادر في بداية العام الحالي، من إنتاج منصّة Nowness المختصّة في الأفلام الروائية والوثائقية والتجريبية.
اتّخذ ميسزينسكي من البحر الميت بجانبه الفلسطيني مكاناً لتصوير فيلمه (سينماتوغرافي جيكوب ستوزيك / Jakub Stoszek). يبدأ الفيلم مع فتيين يريد أحدهما السباحة في البحر، بينما الثاني يرفض. يتجادلان، ثم نرى كليهما يستعدّ للنزول في الماء. يطفو كلّ منهما على سطح الماء، موجّهاً رأسه إلى السماء، ومغلقاً عينيه. يبدأ أحدهما بمونولوج داخلي، يردّد فيه مقطع محمود درويش أعلاه، بالعامية الفلسطينية. وحين يصل إلى "السّماء الأولى" (يقولها: أوّل سما)، يفتح عينيه مُحدّقاً في الشمس. ما أن ينتهي من التساؤل الأخير (وتضيق بنا؟)، تنتقل بنا الكاميرا إلى غرفةٍ نوم في بيت ما، فيها طير صغير. يحاول التحليق باتجاه النافذة كي يغادر، لكنّها مغلقة، فيعود أدراجه حيث كان يقف.
نعود إلى الفتيين. يذهبان إلى بائع بطيخ، يبتاعان واحدة. يعودان إلى الشاطئ. تنتقل بنا الكاميرا إلى العلم الفلسطيني يرفرف، ومن خلفه التلال الصخرية الجرداء المواجهة للبحر. نعود إلى الفتيين مرّة أخرى. نرى سكّيناً تقطع في الفاكهة الصيفية. يقابل المخرج هنا، في هذه اللقطة، بين ألوان العلم الفلسطيني وألوان فاكهة البطيخ التي استُعيدت كرمز فلسطيني في ساحات العالم وتظاهراته، التي تخرج مطالبةً بوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
يجلس الفتيان على أرض مغمورة بالملح، ويلتهمان الفاكهة الحلوة مُحدّقين في البحر. هنا، تتنقل الكاميرا بين الملح والبحر والبطيخ، وجسدي الفتيين؛ إذ يمتزجان بكل عناصر الأرض هذه، وكأنّهما جزء لا يتجزّأ من ملح الأرض وبحرها ورمال الشاطئ وحتى فاكهة البطيخ.
ويواصل أحدهما المونولوج مستلهماً مقطعاً آخر من "في حضرة الغياب": "تذكَّر، لتكبر، نفسك قبل الهباء
تذكر تذكر/ أصابعك العشر، وانس الحذاء/ تذكر ملامح وجهك/ وانس ضباب الشتاء/ تذكر مع اسمك، أمَّك/ وانس حروف الهجاء/ تذكر بلادك، وانس السماء/ تذكّر تذكّر".
يعود الفتيان إلى البحر، يطفوان على سطح الماء، وعيناهما مغمضة، موجّهة إلى السماء.
يتخلّى المخرج البولندي في فيلمه القصير عن أي خطاب مباشر، أو حدثٍ استثنائي، ليخلق حكايته الصغيرة. اكتفى بالاستعانة بمقاطع من كتاب "في حضرة الغياب"، يعيد صياغتها فتى صغير بالعامية الفلسطينية. يقولها ببساطة، من دون أي تكلّف، لتظهر كما لو أنّها أسئلة لا تحتاج إلى شاعر، أو رجل ناضج، كي تُطرح. فتى يتأمّل البحر والسماء يمكن أن يطرح أسئلة من هذا النوع، بطريقته ولغته الخاصة. يبقى الملح، بما يحمله من مدلولات مرتبطة بالأرض والبحر، والجرح الفلسطيني المفتوح، أحد أبرز شخصيات الفيلم القصير. ملح يمتدّ على طول الشاطئ، ويمتزج بالصور والكلمات.