فيلم "أول مصوّر في غزة" يوثق ذكريات وأماكن دمرها الاحتلال

16 فبراير 2024
كسر عمل كيغام الصورة النمطية التي عكف الاحتلال البريطاني على ترويجها عن غزة (فيسبوك)
+ الخط -

امتلأت قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله، الخميس، بالمتفرجين الذين جاؤوا لحضور العرض الخاص للفيلم الوثائقي "أوّل مصور في غزة: كيغام" للمخرجة الفلسطينية مروة جبارة الطيبي.

لم يعلم الجمهور باستشهاد أحد الشخصيات المحورية في الفيلم، مروان ترزي، حافظ أرشيف استوديو كيغام، مع زوجته وعدد من أفراد أسرته، جراء قصف الاحتلال لكنيسة بروفيريوس للروم الأرثوذوكس في مدينة غزة خلال عدوانه المستمر على القطاع منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي.

ولفتت المخرجة مروة الطيبي إلى أن الهدف من عرض هذا الفيلم التلفزيوني، كان "لفت الانتباه للأرشيف الفلسطيني، ودور الشهيد مروان ترزي في حفظ أرشيف كيغام، وضرورة استمرار العمل والتعاون في هذا الاتجاه". ولفتت إلى أن ابن ترزي هاتفها قبيل العرض من غزة، وأبلغها أنه تمكن في صباح ذات اليوم، لأول مرة منذ اندلاع العدوان، من زيارة منزل العائلة المدمّر، لينقذ ثلاثين صورة فقط من أرشيف "كيغام" التي حفظه والده لعقود.

وكشفت المخرجة الفلسطينية لـ"العربي الجديد" أن "30 صورة" سيكون عنوان النسخة المعدلة والمزيّدة، والتي هي بمثابة فيلم جديد عن حكاية "كيغام وترزي"، لافتة إلى أن مدته ستكون خمسين دقيقة لا ثلاثين دقيقة كما هو حال هذا الفيلم، وإلى أنها ستركز على الصور والمكان أكثر من الأشخاص.

وأشارت الطيبي إلى أن معظم طاقم العمل ومن ظهروا فيه باتوا اليوم شهداء أو مفقودين أو خارج غزة، فمدير التصوير بلال سالم مختفٍ منذ مدة ومصيره مجهول بعد استشهاد أكثر من 126 شخصاً من عائلته، أما الباحثة وجيهة الأبيض التي عملت في إعداد الفيلم فاضطرت إلى مغادرة القطاع خلال الحرب.

وتناول الفيلم في نصف ساعة، ما بين غزة والقاهرة، سيرة ومسيرة كيغام جيغاليان، صاحب أول استديو تصوير في غزة، وهو من مواليد أرمينيا عام 1915، وفرّ طفلاً برفقة والدته من المذبحة الأرمنية إلى سورية، وبعدها استقر في القدس، قبل أن ينتقل إلى غزة في مطلع أربعينيات القرن الماضي، حيث عمل مُصوّراً.

وبحسب شخصيات الفيلم، حوّل كيغام الصورة إلى حالة شعبية لم تعد مقتصرة على عليّة القوم والطبقة الأرستقراطية، ممّا جعل منها مُنتجاً شعبياً. كذلك، كسر المصور الصورة النمطية التي عكف الاحتلال البريطاني، وقبله المصورون المستشرقون على تكريسها حول غزة، باعتبار أن سكانها بدو رحّل، يرتبط حضورهم بالجِمال، على الرغم من أنها المدينة الفاعلة عبر التاريخ، اقتصادياً، وثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً، كما عمل على دمقرطة الصورة، مُظهراً حالة من الانفتاح سادت في غزة حتى احتلالها عام 1967 قبل أن تندثر مع مرور الوقت.

وساهم كيغام بتقديم سرد بصري لتاريخ غزة النادر، وهو ما صدم العديد ممّن شاهدوا الفيلم للمرّة الأولى، في قاعة "القطان"، مساء الخميس، ومنها الصور الخاصة بمجازر الاحتلال في خانيونس عام 1956، وتوثيقه لانسحاب الجيش الإسرائيلي من المدينة بعد احتلالها لستة أشهر إثر "العدوان الثلاثي"، إضافةً إلى توثيقه للنكبة الفلسطينية عام 1948، وبدايات تكوّن مخيمات اللاجئين على الشاطئ، وتطوّرها مع الزمن، وكذلك تسليط الضوء على جيش التحرير الفلسطيني الذي أسسه أحمد الشقيري في غزة، وبات بعدها أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ووثّق كيغام، الذي عمل مصوّراً للسلطات المصرية، زيارة الملك فاروق إلى غزة، ومن ثم زيارات رؤساء الجمهورية المصرية بعد ثورة 1952، مثل محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، واستقبالهم لزعماء وقادة من كافة أنحاء العالم فيها، كجواهر لال نهرو، وتشي غيفارا، وجان بول سارتر، والممثل بول براينر، إضافة إلى نخبة من نجوم الفن المصري، ظهرت منهم على الشاشة تحية كاريوكا وهي ترقص على أحد مسارح القطاع.

ولفتت مخرجة الفيلم ومنتجته إلى أن عدم ظهور العديد من الصور التي جرى الحديث عنها، يعود إلى تلفها في وقت سابق، جراء تسرب ماء إليها، أو إلى "النيغاتيف" الخاص بها.

وكشفت الطيبي لـ"العربي الجديد" أن المصادفة وحدها هي من قادتها إلى كيغام، حيث كان من المقرر أن يكون فيلمها ضمن سلسلة حول مصوري فلسطين التاريخيين عن جارو نالبنديان، إلّا أن ابنه أصرّ على رغبته بصناعة الفيلم، وفي ظل رغبتها بأن يكون هناك حضور أرمني في السلسلة، لفتت صديقتها وجيهة الأبيض إلى تجربة "كيغام" في غزة.

وقال وزير الثقافة الفلسطيني السابق، إيهاب بسيسو، الذي ولد وعاش في غزة، ضمن جلسة نقاشية تبعت العرض، أنّ جميع الأماكن التي ظهرت في الفيلم لم تعد موجودة، باستثناء مقبرة الإنكليز، حيث تعرضت لقصف مدمّر من قوات الاحتلال، بدءاً من نصب الجندي المجهول وساحته، ومركز الثقافة والنور حيث كان الشهيد مروان ترزي يتحدث عن إرث كيغام، و"مارنا هاوس"، وجمعية الشبان المسيحية التي تحول ملعب كرّة السلة فيها بعد هدمه إلى مقبرة لثلاثين شهيداً من النازحين، إضافةً إلى كنيسة القديس بروفيريوس للروم الأرثوذكس.

وأشار بسيسو إلى أن تجربة كيغام تستحق الدراسة، فالرجل الذي نجا من المذبحة الأرمنية، قرّر التوجه إلى غزة، للبحث عن فرصة استثمارية، عبر افتتاح أول استديو تصوير في المدينة حمل اسمه، ليبدأ في إنشاء صناعة فوتوغرافية لم تكن سائدة وقتها. بدأ كيغام في تحرير هذه المعرفة عبر الصورة، منتصراً ليوميات الفلسطينيين وحيواتهم.

من يشاهد صور كيغام حول المراحل الأولى للجوء الفلسطيني إلى غزة عام 1948 تقفز إلى ذهنه الصور التي توثق لما يحدث في حرب الإبادة على غزة هذه الأيام، وخاصة طوابير الأطفال الراغبين بالحصول على المياه والطعام لأسرهم، وكأن تاريخ النكبات الفلسطينية يعيد نفسه.

وجراء الدمار الناتج عن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، تحوّل الفيلم الذي صور في العامين 2020 و2021، فيلم "أول مصوّر في غزة: كيغام"، بحسب مخرجته مروة الطيبي، إلى أرشيفٍ يوثق حكايات وأماكن وأشخاص لم يعودوا موجودين.

المساهمون