كتابة الناقد السينمائي أمير العمري (مصري مُقيم في لندن)، عن الدقائق الـ24 الأولى (كما يُحدّدها) من "القاتل" (2023)، للأميركي ديفيد فينشر (فيسبوك، 13 يناير/كانون الثاني 2024)، تحثّ على نقاشٍ يتناول، أساساً، معنى إنجاز فيلمٍ قصير، يكون تمهيداً (طويلاً بعض الشيء، قياساً إلى فيلمٍ روائي طويل) للاّحق به، في مسارٍ، تبلغ مدّته السينمائية كلّها 118 دقيقة.
يصف العمري الدقائق الـ24 تلك، التي تنتهي "بعد قليل من انطلاق الرصاصة التي تضلّ هدفها"، بأنّها صالحةٌ، بمفردها، "كفيلمٍ قصير شديد القوّة والتميّز والعمق أيضاً"، مُضيفاً أنّ أسلوب الإخراج فيه يختلف "عمّا سيتلوه من مَشاهد، لكنْ من دون أنْ يفقد الفيلم إيقاعه وجاذبيته".
هذا يستدعي نقاشاً يتناول مسألتين: "فيلم قصير" و"عدم فقدان اللاحق عليه إيقاعه وجاذبيّته". فالدقائق الـ24 تلك "فيلم قصير" بحِرفيّة رائعة، "تتورّط" في تحليلٍ عميق لذاتٍ وروحٍ، وفي وصفٍ دقيق لجسدٍ يتحرّك في حيّز صغير (ما يُشبه الشقّة، في طابق أخير، في مبنى باريسي)، أو يغفو على مصطبةٍ، ولحراكٍ أو صمت، ولمهنةٍ (القتل) وتفاصيلها، تمهيداً لقولٍ سينمائي محض عن علاقةٍ بالمهنة، والتزامٍ بقواعدها، واحترامٍ لمفرداتها.
التحليل هذا، رغم ما فيه من كلامٍ يتفوّه به القاتل (مايكل فاسبندر)، عن نفسه ومهنته وأحواله التي يسمَح لذاته البوح بها، مرويّ في سياق سينمائي يرتكز على حركة كاميرا (إريك ماسرْشْميدت)، "تتجوّل" في ذاك الحيّز وبعض الخارج، وتلتقط مناخاً يُحيط بالقاتل والمكان الذي يستعدّ فيه لتنفيذ مهمّته التي ستفشل؛ كما على تقطيع/توليف (كيرك باكستر) سلسٍ ومهيَّأ لإضافة مزيدٍ من التشويق المحرِّض لمتابعة اللاحق، قبل اكتشاف أنّ اللاحق مجرّد فيلم مطاردات وقتل وعنفٍ، مشغول بحِرفيّة مهنية معتادة في هذا النوع السينمائي، مع أنّ اللاحق انعكاسٌ، أو يُفترض به أنْ يكون انعكاساً لـ"أزمةٍ" يتعرّض لها القاتل، فتُصيبه في مَقتلٍ، فالفشل في تنفيذ مهمّة، في مهنةٍ يحترفها بدقّة، يؤدّي تلقائياً إلى أزمة وجود وحياة وعمل وشعور وعلاقات.
فيلمٌ قصير، ينتهي بفشل قاتلٍ مأجور في تنفيذ مهمّة، يُفترض بها أنْ تكون عادية، وهذا كافٍ لتحليلٍ سينمائي، يُفكّك كلّ المفاصل الأساسية في التركيبة البشرية لفردٍ، يختار القتل مهنةً، ويحترف تنفيذها سنين مديدة، تجعله مطلوباً في أنحاء مختلفة في العالم. والفشل، إذْ يحصل غالباً في مهنةٍ كهذه (كما في مهنٍ أخرى غيرها)، يُصبح خاتمةً، يُمكن (إنْ يستقلّ "الفيلم القصير" عن ذاك الطويل) ألاّ تكون كتلك المصنوعة في "القاتل"، لأنّ "القاتل" غير مهتمّ بفيلمٍ قصير، والدقائق الـ24 تمهيدٌ لا أكثر، وما يلحق بها يتحوّل، سريعاً، إلى فيلم تشويق مليء بعنفٍ ومطاردة وتعذيب، في رحلةٍ تهدف إلى انتقامٍ من أناسٍ يريدون خلاصاً من القاتل، وبمسائل تُلغي جمالية "الفيلم القصير"، المحتاج حتماً إلى نهاية مختلفةٍ عن مجرّد "فشل مهمّة"، على المُكلَّف بتنفيذها ألا يفشل في إنجازها أصلاً، خاصةً إنْ كان بارعاً كهذا القاتل.
كلّ الذي يقوله القاتل، في حوار ذاتي داخلي (أيُمكن تسميته بـ"مونولوغ ذاتي"؟)، يظهر فيه صامتاً على شاشةٍ، في الشقّة أو خارجها، يعكس مناحي عدّة في ذاته وروحه وجسده وواقعه وعيشه وعلاقاته وتفكيره ونظرته. والمكان، الذي توهم مساحاته مُشاهِدَها بأنّها شاسعة، تُصبح ضيّقةً إلى حدّ كبير، مع الاستماع إلى ما يقوله القاتل في ذاك الحوار الذاتي الداخلي، وهذا كلّه "يوهِم" بأنّ المهمة ستنجح، و"سيرة" القاتل ستَسردُ فصولاً من حكاياته وحياته ومهنته.
أمّا اللاحق، فمختلفٌ تماماً، والاختلاف غير معنيّ بإبهار، مكتفياً بالتزامه شرطَ النوع التشويقي البوليسي، المليء بمطاردات وقتل وتصفية حسابات، بعد إدراك القاتل، في لحظةٍ ما، أنّ هناك "مؤامرة" ضده، فيعرف أصحابها، ويُلاحقهم فرداً فرداً. الاشتغال الفني ـ التقني ـ الدرامي يمتلك أدواته، وهذا رائع، ويُفترض بهذا أساساً ألا يُقال، فمخرج مثل ديفيد فينشر يُتقن فعله المهني، وإنْ من دون إبداع وتجديد وإبهار، أحياناً.
وهذا، إذْ يُقال بعد دهشة المُشاهدة الخاصة بالدقائق الـ24 الأولى، غير نافٍ براعة فينشر في إدهاشٍ، ينخفض مستواه في "القاتل"، المُحافِظ على جودته التشويقية، وهذا كاف. الـ24 دقيقة كفيلةٌ بضخّ منسوبٍ من الإثارة والاهتمام، ومن شغف المتابعة، ففيها ما يقول بعمقِ رؤيةٍ تحليلية لنفسٍ وذات، ومهنة القتل تبقى جاذباً لقراءات غير منتهية، سينمائياً، وفي معارف وعلوم أخرى أيضاً.