فوتوغرافيا الدمار... ليست صوراً في متحف المجزرة

17 أكتوبر 2023
في خان يونس (بلال خالد/ الأناضول)
+ الخط -

في جيبٍ صغير من جزدان والدتي ــ الذي كلما فتحت غطاءه الخارجي لآخذ منه نقوداً ــ ترتسم صورة بالأبيض والأسود، لرجل يعتمر كوفية فوقها عقال. عند فتحي لذاك الغطاء، كنت أشعر بأنني أشرع باباً موصداً فيدخل منه جدي على ظهر حصانه الذي لطالما روت لنا أمي قصص رحلاته الطويلة إلى فلسطين، ولحظات الانتظار المشوبة باللوعة حتى عودته إلى الديار.
لم أرَ جدي يوماً، فلقد رحل عنا قبل ولادتي بسنوات كثيرة. إلا أن هذه الصورة -التي حملت وجهه القمحي الذي تضيء محيّاه عينان لهما لون الزيتون الأخضر الغامق- استطاعت أن تقربني منه، وتغذي خيالي بحكايات ساعدتني على نسج خيوط حياة كاملة مفقودة. بعد سنوات طويلة، كبرت وأصبح لي جزدان بروكار (حرير دمشقي)، سكنت أولى بقاعه صورة لرفيقي الفلسطيني وهو يرتدي الكوفية ذاتها. التُقطت الصورة في أحد مخيمات التدريب في لبنان. كان الفرق بين الصورتين يتركز في وجهيهما، ففي الصورة الأولى ظهرت ملامح وجه جدي الذي لا أعرفه واضحة، في حين غطت الكوفية وجه رفيقي، بملامحه التي حفظتها ظهراً عن قلب. كان السؤال الذي طرحته على نفسي لحظة غيابهما: ألا يستحق من غابوا عنا أن يخبرونا قصصهم عن قضية صاروا صوراً لها؟ وهل تبقى صورنا ذاتها بعد فقدنا للأشخاص والأماكن والذكريات المرافقة لهم جميعاً؟
تنتصر الحرب في اللحظة التي تحول ذاتية الفاجعة إلى مشاع، تفرغها من خصوصيتها، حيث تتربع الجغرافية المنكوبة في صدر صور تتشارك المعالم والملامح ذاتها، فلم يعد بإمكاننا فصل طبوغرافية غزة عن البوسنة والهرسك أو عن الجولان وحلب وحمص، أو حتى عن مدينة أوديسا. 
فقد هائل لهوية الأماكن بعد تحولها إلى ركام أو حفرة تتجاوز الأمتار الأربعة. ليست الأماكن فقط ما تضيع تضاريسه، فأمام هذا الحدث الجلل، تضيع ملامح الوجوه، تتناسخ الأجساد في لحظاتها الأخيرة، صور الجموع بصرخاتها التي تمزق جدار الصورة وجموده. في حين وفي لقطة أخرى، تتغير فيطغى على الصورة مشهد مهيب يجري كحمم بركان حارقة، وهي تحمل نعوش من رحلوا إلى مثواها الأخير. تتشارك الأمهات فاجعة الرحيل، يجتاز موكب التشييع طرقاً وعرة، وعند المرور بالقرب من الدور المدمرة، تنهض الحجارة من ركودها وتطبع قبلة الوداع الأخيرة.
كل هذه المشتركات تميز المشهد القابع في تفاصيل الصورة الفوتوغرافية، فهنا تتجاوز اللقطة ماهيتها لتقيس مدى قدرتها على ضخ النبض في الحدث، إذ تعتمد على اللحظة المختارة التي ستسجلها الصورة، وعلى كمّ من الحقيقة قابل للتطبيق، بحيث تكشف ما هو غائب من الصورة الفوتوغرافية، بقدر ما ستكشف ما هو حاضر فيها. وتتنوع طبيعة كمّ الحقيقة هذا، والطرق التي يمكن أن يُميّز بها. ويمكن العثور عليها في تعبيرٍ وفعلٍ وتجاورٍ وغموضٍ بصري وشكلي. إلا أن هذه الحقيقة لا تستطيع أبداً أن تكون مستقلة عن المُشاهِد. فهو اللاعب الأساس في إدراك التصور الأساسي لحيوية اللحظة.
ففي الحياة الحقيقيّة، نجد المظاهر تغيّر الواحدةُ منها الأخرى، في كلٍّ مترابط بصريّاً. وما النّظر سوى تعريض حاسّة البصر لذلك التّداخل وتلك الشموليّة. أمّا آلة التصوير، فإنّها تقطع مسار ذلك التغيّر وتعزل المظاهر المؤطّرة الواحدة عن الأخرى، باعتبار أن وظيفة المشهد تكمن في قدرته على خلق حاضر أبديّ من الترقّب المباشر. وبالنسبة لنا ككائنات بشرية، فإن المعاناة شيء، والشيء الآخر هو العيش مع صور عن المعاناة، حسب سوزان سونتاغ.
فلغة الصورة واسعة الانتشار، لا تحتاج إلا إلى التقاطة جاذبة تستطيع أن تختزل المعنى الكلي للمحيط، وبعناصر محددة لا تحتاج إلى شرح ووصف. فسابقاً، كان ينظر إلى الصورة الفوتوغرافية كوسيلة لتقديم المعلومات إلى الناس الذين لا يلجؤون بسهولة إلى القراءة. أطلقت صحيفة ذا ديلي نيوز على نفسها اسم صحيفة نيويورك المصورة، لتضفي على نفسها هوية شعبية. في حين لم تنشر صحيفة لوموند، المصممة لقراء من سوية معينة واسعي المعرفة، صوراً أبداً.
عُدّت الكاميرا السلاح الأخطر عبر التاريخ، حتى أنها تخطت بعدستها الموثقة للحدث فعالية ما أحدثته فوهات المدافع. ففي الحقيقة، من الصعب تخيل كم المعرفة التي تُنقل لنا من خلال التصوير الفوتوغرافي. لدينا مثال واضح لتأييد هذه الفكرة، دفع ثمنه العديد من الصحافيين الذين أخذوا على عاتقهم نقل الحقيقة المجردة إلى العلن. رافقنا الصحافية شيرين أبو عاقلة في كل الحروب التي شنها الكيان المحتل على أهلنا في فلسطين. حتى أنها باتت جزءا محورياً من هذه الصورة المكررة الأحداث، إلا أن أبو عاقلة كانت تجلب لنا الكثير من المقاطع والصور التي ترمم إنسانيتنا المفقودة، وتجعلنا ندخل عتبة الصورة كما لو أنها المرة الأولى. شكلت لحظة اغتيال أبو عاقلة لحظة مفصلية في تاريخ الصحافة، بالرغم من أنها لم تكن حادثة الاغتيال الأولى، فلقد سكنت شيرين في أركان الحدث الفلسطيني بمختلف أوجهه. ركزت طاقاتها لتصمد وتشهر قضية أهالي الشيخ جراح، بكاميرا وكرسي ورفاق درب قرروا مشاركة أهالي الحي الحصار. استطاعت الكاميرا أن تقوم بدور الشعوب العاجزة عن مناصرة الأهالي المحاصرين في الشيخ جراح، ففككت الكاميرا رموز الحصار وأخرجت أهالي الحي من عزلتهم وجمعت العالم كله حول قضيتهم. هذا ما جعل لحظة اغتيال شيرين ما يطلق عليه بـ"المرة الأولى"، إذ إن القاتل يتخطى حاجز الجريمة عند إطلاقه الرصاصة الأولى. ولم يتأخر الاحتلال علينا، فمنذ أيام قليلة استهدف العديد من الصحافيين بحرب الإبادة الأخيرة التي يشنها على غزة وخارج نطاقها، وكان آخرها قصف سيارة كان يستقلها الصحافي عصام عبدالله أثناء تغطيته الحملة الشرسة على قطاع غزة من الجنوب اللبناني. استشهد عصام في حين جرح 6 من الأصدقاء الذين كانوا يرافقونه.

بات من الواضح أننا نعيش في عالم محكوم بالصورة، إذ إن كل صورة هي في الحقيقة وسيلة اختبار، تؤكد وتبني نظرة كلية للواقع، ولهذا يلعب التصوير الفوتوغرافي دوراً جوهرياً في الصراع الأيديولوجي، ومن الضروري أن نفهم سلاحاً يمكن أن نستخدمه، ويمكن أن يُستخدم ضدنا. وهذا ما يجعل مهمة إيصال فكرة الصورة أمراً في غاية الصعوبة.
تكمن خطورة الكيان الذي نتعامل معه بأنه متمرس في حشد الرأي العام العالمي حوله، وبكونه بارعاً في المراوغة وفي تقمص دور الضحية. لم يكن العالم الذي نعيش به كفيفاً، فلقد ظهرت إلى العلن الكثير من الفيديوهات والصور التي تظهر الحقيقة بأنصع أوجهها، إلا أن ما وثقته الكاميرات كان سلاحاً يدين الضحية، ويطلق سراح المجرم وينظف مسرح جريمته. باعتبار أن أيديولوجيا الأقوى هي الطاغية بمشهديتها وروايتها للحدث.
فإذا ما قرر أحدنا أن يبحث في محرك البحث غوغل عن غزة، ستتحول لوحة المفاتيح إلى ساحة حرب وركام، وستمزق الصواريخ الشاشات العازلة. لم يبقَ متسع في أرشيف الدمار لكل ذاك الخراب المتسرب من تلك البقعة المصممة على الحياة. في أرشيف الصور الأخير القادم من أحيائها، تهنا في خريطة شوارعها التي كانت تتراقص لحظة إحياء طقوس الاحتفال بعملية "طوفان الأقصى"، صدمتنا أبنيتها وأشجارها الخضراء العملاقة! يخيل لي بأننا جميعا حدثنا أنفسنا: يمكن للإرادة أن تبني وتشيد عمائر ومؤسسات، ولكن كيف يمكن لأشجار بهذا الحجم أن تنمو في تربة تطاولها رؤوس الصواريخ أكثر من قطرات المياه؟
وهذا ما جعل العالم يعتاد المشاهد القادمة من فلسطين، ومن كل البقاع التي بات فيها الموت حدثاً اعتيادياً. إن تكرار اللقطة التي توثق فاجعة بعينها، يُشعر أصحابها بأنهم منسيون. فحسب رولان بارت: "حوّلت الفوتوغرافيا الذات إلى موضوع، بل إذا جاز القول، إلى موضوع متحفي". وهذا ما اعتمدته وسائل الإعلام العالمية في سياساتها في تفريغ حدث القتل ورصفه صورًا مؤطّرة في متاحف المجزرة. حتى اللحظة، ما زلنا نعيش تغريبتنا مستحضرين تغريبة أجدادنا، الحدث قائم في مخيالنا كما لو أننا أطيافهم العائدة من البلاد وإلى البلاد.
تطاول الحرب كل ممتلكاتنا، نهرع مسرعين إلى إنقاذ ما أمكن منها. نجمع صورنا، صورهم وهم بيننا، لا نريد للذاكرة أن تؤرشفهم وهم ضحايا. يخيل إلينا بأننا ننتصر على الموت عندما نعيدهم إلى الحياة، فنغريهم بوضعهم في إطارات فخمة يقفون فيها بأبهى حلتهم، تعتلي وجوههم ضحكات توثق موقفاً طريفاً عشناه سوية. بينما نتناسى بأننا لسنا الوحيدين في هذا المشهد، فالكاميرا ليست حكراً علينا وحدنا، وبالتالي ستحمض الصورة جهات متعددة لها سلطتها في سوق الصورة الذي ترتفع أرصدته بمقدار الصدمة والألم اللذين يحيطان باللقطة. كثيرة هي المرات التي كسرتنا فيها صورة، فالصورة أيضاً خطيرة إذا ما وقعت عليها أعين مارقة.
إلا أننا اليوم نعيش مرحلة جديدة في تاريخ الصورة، إذ سيعيد "طوفان الأقصى"، إنتاج سردية جديدة للصورة. وبالرغم من خلفياتها المفروشة بالفاجعة، إلا إن ما يتقدم الصورة ويقلب مشهديتها رأساً على عقب ذاك الطوفان الطاغي، في عملية ستكون شعار المرحلة.
في لحظة ما، استفقنا جميعنا لنرى صور مقاتلين ملثمين يقودون دفة مظلاتهم السابحة في السماء، يجتازون جداراً عنصرياً مدججاً بالكاميرات والرادارات. ستخلد تلك الصور التي جعلت وجهتهم شمس البلاد التي لن تغيب، رفعتهم حرارتها فحلقوا باطمئنان كما لو أنهم طيور مهاجرة تعود إلى الديار. جميعنا تحسس رائحة البلاد في تلك الصورة الممزوجة بخيوط شمس فلسطين.

المساهمون