عرف المشرق العربي لعقود طويلة تقاليد راسخة للاستماع المرهف، الذي تتحول فيه أذن المتلقي إلى جهاز لالتقاط أدق التفاصيل، ما يكون سبباً للاستمتاع بأكبر قدر من الحمولة الطربية المدخرة في العمل الفني، غناء أو عزفا، تلاوة أو إنشادا.
الوصول إلى هذا المستوى من رهافة السمع لا يكون إلا عبر مران طويل وتدريب متواصل، وحرص على توفير البيئة المناسبة لهذا التدريب. لكن الناس يتفاوتون في قدرتهم على الاستماع الواعي، القادر على تحصيل جماليات الموسيقى الكلاسيكية، أو الغناء الراقي في عصور ازدهاره.
وفي الموسيقى والغناء الشرقيين الكلاسيكيين، يُعتبر المستمع جزءا من روح العمل المُقدم، فالتأثر والانفعال الطربي، والتعبير عن هذا الانفعال، تنعكس بالضرورة على أداء المطرب أو العازف، فتشجعه على الخلق اللحظي، والإبداع الفوري، والارتقاء إلى حالة من الألق الوجداني تكون دائما لصالح المستمع المنتبه.
تزدحم القوالب الكلاسيكية للغناء العربي بكثير من الجماليات والتفاصيل المطربة، ولا سيما في الموشحات والأدوار القديمة، وجمل الهنك، والآهات، والقفلات المحكمة، والقرارات العميقة، والمواويل والليالي، وأيضا تنتثر هذه التفاصيل في المؤلفات الآلية، من بشارف وسماعيات، وفي الارتجالات والتقاسيم، وفي حالة الانصهار بين المطرب والعازفين، وفي التلاعب الإيقاعي، وتأخير النبر، والترجمة الآلية للجمل المرتجلة، ولحظات التحويل المقامي، والخروج إلى مقامات متعددة، ثم لحظة العودة إلى المقام الأصلي. وكل هذا يزداد توهجه ويتلألأ بريقه بوجود الجمهور المنتبه المنفعل المتأثر.
ولعل المثال التوضيحي الأشهر لأثر الجمهور، هو حفلات أم كلثوم، إذ يختلف أداء السيدة اختلافا كبيرا جدا عن أدائها لنفس الأغنيات في تسجيلات الاستوديو المغلق. فالجمهور اليقظ يجعل من التعبير عن انفعاله وإعجابه وقودا يدفع سيدة الغناء للإضافة، والإعادات ذات الاختلافات، وتغيير مواضع الارتجالات، لتصبح المحافل المختلفة للأغنية الواحدة أعمالا مستقلة، لا يُغني منها محفل عن محفل.
وفي عالم التلاوة، يعتبر الشيخ مصطفى إسماعيل الحالة الأبرز، فالبون شاسع جداً، بين تلاوات الرجل في الاستوديو المغلق، وبين تلاواته في السرادقات والمحافل. في الاستوديو لا يكاد الشيخ يستخدم 10% من طاقاته الصوتية والإبداعية، فإذا خرج إلى المحافل، وجلس بين جمهوره الواسع، حطم أغلاله، وتحول إلى تلك الشخصية الجبارة المسيطرة، ليظل لنحو ساعة أو ساعتين، يعطي الجمهور من ألوان فنه، ويعطيه الجمهور من وقود التشجيع، في حالة تبادلية عجيبة، وإلى هذه الحالة التبادلية يرجع السبب في تفوق شيخ المحافل على شيخ الاستوديو.
ولكي يؤتي هذا الانفعال ثمرته، لا بد أن يكون حقيقيا وطبيعيا، وأن يصدر عن تأثر صادق لا مصطنع. وهذا لا يكون إلا من مستمع متمرس، تدرب طويلا على فهم الدقائق الفنية، وحاز ملكة يفرق بها بين الغث والسمين. والباب الواسع، والطريق الأقصر لتحصيل هذه الملكة هو الإنصات والتركيز والانتباه الشديد، وخلق بيئة تُعين على هذا الانتباه.
فلا معنى للاستماع أثناء العمل، أو جعل العمل الفني خلفية أثناء تناول الطعام مثلا، أو الانشغال بالرد على الهواتف أو نقل الحالة إلى مواقع التواصل، والرد على الرسائل، أو الغناء مع المطرب، أو تقديم شروح وتوضيحات فنية حول كل انتقال نغمي أو تصرف لحني. كل هذا مما يشتت الذهن، ويضر بالمران المطلوب. وهو ما يعني أن التعبير عن الانفعال والتأثر عملية دقيقة، إن لم تؤدي على الوجه الأمثل، فقد تنقلب إلى عكس المستهدف منها، وتتحول إلى حالة من "الشوشرة" التي يضيع في ضجيجها قدر كبير من جماليات الغناء أو الموسيقى أو التلاوة أو الإنشاد.
وإذن، فإن المران لن يقتصر على تدريب الأذن على التقاط الدقائق الفنية، والجماليات الخفية، ولكنه سيشمل كذلك التدريب على ضبط مظاهر التعبير عن الانفعال، لتأتي في حجمها الطبيعي، وفي موضعها الدقيق. والحقيقة أن تقاليد الاستماع العربية لا تعرف هذا السكون المطبق الذي يلتزم به جمهور الموسيقى الكلاسيكية الغربية، فالأداء الطربي العربي مرتبط دائما بتلقي رد فعل فوري، إلى درجة دفعت شركات الأسطوانات أوائل القرن العشرين لأن تستعين بما يعرف بـ"المطيباتي"، وهو رجل وظيفته إطلاق كلمات الاستحسان والتشجيع عند المواضع "الحراقة"، لتحفيز المطرب على الإجادة، ولإضفاء قدر من "الحياة" على التسجيل.
وقد تكرر هذا في كثير من أسطوانات أم كلثوم القديمة، وتسجيلات القدماء قبلها من كبار مطربي عصر النهضة، ومن أشهرهم المطرب سليمان أبو داود، الذي لا يكاد يخلو تسجيل له، من مطيباتي ينادي عليه زاعقا: "يا أبو داود"، فيرد الرجل فورا: "حاضر". كما يذكر الهواة جيدا ذلك الرجل الذي ينادي على عازف الكمان الشهير سامي الشوا قائلا: "الله يا سامي أفندي يا صاحب العمارة".
ولأن تقاليد الاستماع العربي تقوم على تلك الحالة التفاعلية بين المطرب والجمهور المدرب المتمرس، فقد انعكست حالة التراجع والضعف الفني على الجمهور المتلقي، وانحسر تيار "الاستماع الواعي"، لأن الغناء الحداثي، الذي هيمن على الساحة منذ أوائل الأربعينيات، قام في أساسه على إخلاء العمل من الصعوبات والتعقيدات، التي تستلزم المران لتحصيلها، ومع ظهور السينما ثم الإذاعة، تعمقت الحاجة إلى هذا اللون السهل من الغناء والألحان، ليلبي رغبات الجمهور الواسع، ومع الوصول إلى حقبة الستينيات والسبعينيات، أصبحت الهيمنة للغناء التجاري، وانتشرت الألحان التي يقدر على غنائها أي مطرب أو مطربة، فانفتح الباب واسعا أمام الأصوات "العادية"، التي نالت الترحيب والقبول والثناء من مستمعين عاديين، لم يتمرسوا يوما بالنمط الصعب من الأداء.
إن الطاقة الاستماعية اللازمة لاستيعاب أغنية أم كلثوم "هلت ليالي القمر" أكبر كثيرا من تلك الطاقة اللازمة لفهم أغنيتها "أغدا ألقاك". والتركيز اللازم لفهم أغنية "الأَوِّلة في الغرام"، أكبر من الذي نحتاجه مع أغنية "حب إيه"، والتدريب اللازم لتذوق البشارف والسماعيات، أضعاف ذلك التدريب الذي يلزم لتذوق موسيقى "ذكرياتي" لمحمد القصبجي، أو "بنت البلد" لمحمد عبد الوهاب.
كانت الأدوار والموشحات والقصائد الموقعة تمثل غناء نخبويا، ليس بالمعنى الاجتماعي الطبقي، ولكن بالمعنى الفني الصرف، إذ كانت الجماهير التي تتذوق وتطرب لهذا اللون، من المنتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية.
وللباحث المصري الراحل، فؤاد زكريا، كلام مهم عن عملية الاستماع، سطره في كتابه "التذوق الموسيقي"، قائلا: "إن الاستماع درجات ومراحل متفاوتة.. ففي أول مراحله لا يكون المرء قادراً إلا على استيعاب الموسيقى الخفيفة، ذات الإيقاع الواضح، كالموسيقى الراقصة بأنواعها، ولما كانت هذه الموسيقى لا تتصف بالعمق، ولا توحي بالمهابة والوقار، فإن الاستماع إليها يكون عادة مصحوبا بأداء أفعال أخرى، كالكلام مثلا، فمن المحال أن تُربى عادة الاستماع المركز في هذه المرحلة.. وفي مرحلة تالية تبدأ ملكة الاستماع تكتسب مزيدا من الخبرة، ويكون في وسع المرء أن يتذوق مقطوعات أكثر عمقا.. أما مرحلة التذوق الفني الكامل فتقتضي بلا شك قدرا هائلا من التركيز، غير أن الخبرة والمران كفيلان بأن يجعلا هذا التركيز أمرا غير شاق.. وهكذا تتفاوت درجات الاستماع تبعا لخبرة المستمع ومدى عمق تجاربه وطول مدة مرانه".
لكن بالرغم من أهمية كلام فؤاد زكريا في ما يخص التمرين على "فن الاستماع"، إلا أن الرجل يتحدث عن الموسيقى الغربية، وتقاليد الإنصات إليها، حيث الصمت التام إلى أن ينتهي العزف، ثم تحية العازفين بالتصفيق، وهو ما يختلف مع العادات الاستماعية العربية المتسمة بالتفاعل، لكن لا بد من الإقرار بأن هذه المظاهر التفاعلية بدأت تأخذ أشكالا تضر بالتركيز والانتباه، فقد اعتاد الجمهور الذي يصف نفسه بـ"السميعة" على إظهار انفعاله بالصياح والضجيج والتلويح ومخاطبة المطرب أو العازف، وصفع الجبهة باليد، وضرب الأرض بالأقدام، مع كل قفلة، وكل تغيير نغمي، وكل عُربة، وكل زخرفة، وكل شروع في التصعيد الصوتي، من دون أن تكتمل الجملة المؤداة، ما يؤدي إلى ضياع التركيز، وتفويت كثير من التفاصيل والجماليات الدقيقة.
كثير منهم يبالغ، ويعطي رد فعل أكبر من التصرف الفني الذي سمعه. وقد ابتليت المسارح والمحافل والسرادقات ومجالس الاستماع بهذا النمط السطحي من المستمعين، وقد كان لهم نظراء في العقود الماضية، لكنهم كانوا أفرادا واستثناءات، واليوم صاروا حالة عامة.
ويمكن لمن يرصد الحالة الجماهيرية في محافل أم كلثوم، أن يدرك التفاوت في مستوى الإنصات أو الصخب ورد الفعل بين محفل وآخر، ويكاد المهتمون بتراث أم كلثوم يتفقون على أن جمهور السيدة في مسرح الأزبكية خلال عقد الخمسينيات، كان الأكثر توازنا في معادلة الإنصات والانفعال بمحافل كوكب الشرق، وأنه يتفوق كثيرا على جمهورها في النصف الثاني من عقد الستينيات وأوائل السبعينيات. أما الشيخ مصطفى إسماعيل فاعتبر أن رد الفعل الأفضل هو أن يردد الجمهور لفظة "الله" بصوت واحد، ليمنح القارئ "روحا" وليعبر من خلال صيحته عن انفعال حقيقي وعميق.
ويبقى "الاستماع" الحقيقي مفتاحا وحيدا لباب الطرب والتذوق الموسيقي، ويظل عملية معقدة، تتجاوز حالات الادعاء والتفاخر ومنح النفس لقب "سميع"، كما تبقى آثارها منعكسة على المشهد الغنائي والصوتي، فالمستمع الفاهم هو أكبر دوافع العملية الإبداعية لدى الفنان، تلحينا أو عزفا أو أداء صوتيا.. وقد كان فؤاد زكريا دقيقا ومحقا حين قال: "إني لأذهب إلى أن الاستماع فن قائم بذاته، يقتضي تدريبا طويلا قبل أن يصل الإنسان إلى ممارسته على النحو الصحيح".