فنانون تونسيون... الهروب بحثاً عن الحرية والأمان

01 سبتمبر 2022
اختار لطفي العبدلي الهجرة من تونس (نيلسون برنارد/Getty)
+ الخط -

شكل إعلان الممثل لطفي العبدلي الهجرة إلى فرنسا، وإيقاف أعماله الفنية والتجارية، بعد تعرضه إلى التضييق والتهديد، إثر عرض مسرحيته التي وجّه فيها نقداً للشرطة التونسية، صدمة للكثير من المتابعين للوسط الفني التونسي. صدمة تعمقت أكثر عند ظهور العبدلي في آخر فيديو له من فرنسا، وهو يبكي بحرقة، مؤكداً أنه تعرض إلى المضايقة والتهديد، وأصبح يخشى على حياته وحياة أسرته، ما دفعه إلى اتخاذ قرار صعب، وهو مغادرة تونس والاستقرار في فرنسا وحيداً في انتظار أن تلتحق به عائلته.
لطفي العبدلي ليس الفنان التونسي الوحيد الذي قرّر الاستقرار في فرنسا والهجرة من تونس؛ فقد سبقه بفترة قصيرة الفنان صبري مصباح، الذي قرر اعتزال الفن والهجرة إلى فرنسا أيضاً، بعد أن شعر بالضيق وعدم القدرة على ضمان عيش يليق بصورته كفنان. مصباح سليل عائلة فنية؛ فوالده هو الفنان التونسي صلاح مصباح، أحد أشهر الفنانين التونسيين في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة.
هجرة ليست بالجديدة عن الساحة الفنية التونسية؛ فقد سبق لفنانين مثل هند صبري وصابر الرباعي وسناء يوسف ودرة الهجرة إلى مصر. لكن هجرتهم لم تكن بسبب التضييق عليهم، بل من أجل البحث عن آفاق أرحب لنشاطهم الفني في السوق المصرية التي تعرف حركية فنية أكثر من تونس. إلا أن مبررات الهجرة هي التي تغيرت اليوم، وبات الرحيل عن البلاد اضطرارياً وليس اختيارياً.
عرف صيف 2022 عودة العروض الفنية الكبرى بعد سنتين من الغياب بسبب جائحة كوفيد-19، لكنه عرف أيضا أشكالاً عديدة من التضييقات على الفنانين، وصلت إلى حدّ الاعتداء عليهم جسدياً، مثلما حصل للمنتج محمد بوذينة، منتج مسرحية لطفي العبدلي، وعرض "الزيارة"، الذي أكد أنّ "النية كانت تتجه نحو تصفية لطفي العبدلي جسدياً من طرف مليشيات مسلحة مارقة وخارجة عن القانون"، كما أكد تعرضه إلى الاعتداء الجسدي، مشيراً إلى أن ذلك مؤشر خطير على ما وصلت إليه الأمور بعد نقد العبدلي للأمن أثناء عرضه في مهرجان صفاقس الدولي. كما وقع الاعتداء على مدير مهرجان طبرقة الدولي من قبل الشرطة التونسية.
بعض العروض الفنية كان مصيرها الإلغاء، لأسباب تتعلق بتصريحات للفنانين، أو مضمون العمل الفني، مثلما حصل مع نقيب الفنانين التونسيين السابق مقداد السهيلي؛ إذ رفض سكان مدينة المنستير عرض مسرحيته "حسين في بكين" بسبب تصريحات سابقة له انتقد فيها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة اعتبرها سكان هذه المحافظة إساءة إلى الرئيس التونسي الراحل؛ الأمر الذي نفاه مقداد السهيلي في تصريح خاص لـ "العربي الجديد": "من تحدثوا عن المسرحية لم يشاهدوها. وكم كنت أتمنى أن يشاهد سكان المنستير المسرحية قبل نقدها أو رفضها. لم أُسئ للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ولكنني نقدت بعض أعماله؛ فهو إنسان وليس معصوماً من الخطأ أو فوق النقد".
في هذا السياق، تعلّق الصحافية الثقافية يسرا الشيخاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على كل تلك الظروف، واصفة إياها بأنها "سريالية شأنها شأن الوضع العام في تونس. فمن غير المقبول التضييق والاعتداء على الفنانين تحت أية حجة كانت، خاصة وأن هذه الاعتداءات تنوعت بين الاعتداءات الجسدية والسحل الإلكتروني، ما يجعل الفنان يعيش حالة من عدم الاستقرار ويُفرغ الفن من رسالته الحقيقية وهي أن يكون صوتاً للحرية".

رأي شاركها فيه الصحافي والباحث في علم الاجتماع رمزي العياري، الذي أكد لـ "العربي الجديد"، أن "التضييق على الفنانين والمثقفين في تونس، من قبل أي كان، سواء جهة سياسية أو نقابية، أو من يدعون المعارضة الثقافية، يشي بخطر محدق بالحريات العامة وحرية التعبير والإبداع على وجه الخصوص". وأضاف أن "أبشع شعور قد يشعر به الفنان هو إحساسه بأنه أعزل، رغم وجوده في قلب المجتمع في مواجهة طغيان ما، أو مداهمة مادية أو رمزية لحرمه الفني، وهو ما حصل أخيراً لبعض الفنانين التونسيين". هذه المعطيات، وفقاً للعياري، "تدفع الفنان إلى التفكير في الهجرة"، لكن هذه الهجرة اعتبرها "نوعاً من التخلي والانسحاب من المشهد الثقافي التونسي، كما أنه شكل من أشكال الخذلان لصورة المثقف والفنان الشجاع".
الرأي نفسه، أيضاً، ذهبت إليه يسرا الشيخاوي، التي ترى "أنه رغم كل ما يعيشه ويعانيه الفنان فلا مجال للانسحاب والهجرة وترك الميدان، بل على الفنانين التكاتف والتضامن في ما بينهم لحماية الجسم الفني أمام كل اعتداء مهما كان".
إلا أنه رغم كل هذا الجدل، لم تصدر من وزارة الشؤون الثقافية، أو من النقابات الفنية، أي بيانات تندد بهذه الممارسات أو تعلن تضامنها مع الفنانين الذين تعرضوا للمضايقات، رغم أن تونس فيها أكثر من نقابة فنية. وشكلت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين الاستثناء؛ إذ أصدرت أكثر من بيان طيلة الشهر الحالي، أكدت فيها دفاعها عن حرية الرأي والتعبير، منددة بكل محاولات التضييق على هذه الحريات، الأمر الذي شاركتها فيه الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، على لسان نائب رئيسها بسام الطريفي، الذي أكد أنّ "المساس بحرية التعبير والفن أمر مرفوض، وما حصل للفنان لطفي العبدلي تأكيد على أنّ تونس تعيش زمن دولة البوليس، الذي بات يتدخل حتى في أعمال فنية، ويحاول إيقاف عرض مسرحي بحجة المساس بصورتهم". 
لئن جرى الإجماع على أنّ التضييق على الفنانين والاعتداء عليهم أمر مرفوض، إلا أن الاختلاف كان حول معالجة هذا الأمر؛ فحلّ الهجرة يراه المتابعون للشأن الثقافي انسحاباً مرفوضاً، ويراه الفنان لطفي العبدلي حلاً معقولاً، يتجاوز صفته كفنان إلى وضعيته كإنسان حريص على سلامته وسلامة عائلته.

المساهمون