لم يكن الباحث والأكاديمي المصري فؤاد زكريا (1927 - 2010) موسيقياً بالمعنى الشائع للكلمة، التي تطلق عادة على المشتغلين بالتلحين أو الغناء أو العزف، أو على أصحاب الدراسة الأكاديمية النظرية. ولعل كتاباته في الميدان الموسيقي -على ندرتها- قد اكتسبت أهميتها من عدة عوامل، في مقدمتها المكانة الأدبية للرجل، باعتباره واحداً من أهم رموز تيار العقلانية في العالم العربي، وأيضاً لأن مستوى ما حصله من دراية نظرية موسيقية، جعل منه حالة استثنائية بين الكتاب والمفكرين العرب.
لكن زكريا وظف مكانته ودرايته ليرسل على الموسيقى الشرقية قصفاً متوالياً من الانتقاد الشديد، والازدراء المتواصل، الذي بلغ ذروته بعدم الاعتراف بوجود فن موسيقي شرقي ولا مصري من الأساس.
وخلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عبر فؤاد زكريا عن موقفه من الموسيقى الشرقية، وكرر هذا الموقف في كثير من المقالات التي نشرتها الصحف المصرية، ثم جمعها الرجل في كتبه التي خصصها للشأن الموسيقي. قدم الرجل حيثيات حكمه برفض الموسيقى الشرقية كلها، مصرية كانت أم حلبية أم عثمانية، وساق عدداً من الشواهد التي اعتبرها دليلاً دامغاً على هبوط الغناء والتلحين المصري. والمعنى الذي يربط هذه الشواهد جميعاً، يتمثل في أن الرجل جعل من الموسيقى الغربية وخصائصها معياراً يحاكم إليه موسيقى الشرق، وربما موسيقى العالم كله، فما وافق الموسيقى الغربية كان راقياً متقدماً عميقاً، وما خالفها كان هابطاً رجعياً سطحياً.
يرى فؤاد زكريا أن الموسيقى الشرقية تتسم بـ"التلاصق". وفي كتابه "التعبير الموسيقي" الذي صدر عام 1956، يوضح ما يعنيه بالتلاصق قائلاً: "إن كل صوت في اللحن هو الصوت التالي، ارتفاعاً أو انخفاضاً للصوت السابق عليه، أي أن الألحان الشرقية عبارة عن سلسلة متصلة من الأصوات تعلو وتنخفض محتفظة بتلاصقها. ولا شك أن اللحن الذي يسير في أصوات متلاصقة أبسط في تركيبه كثيراً من ذلك اللحن الذي تتباعد أصواته".
وفي لغة جازمة، يقرر زكريا أن هذا التلاصق النغمي يؤدي إلى فقدان الشعور بالجدة في الألحان، وإلى صبغ كل الأعمال الموسيقية بصبغة التشابه، وإلى انعدام عنصر التنوع فيها. ولا ينسى زكريا أن يؤكد سذاجة الألحان المكونة من نغمات متلاصقة، فبرأيه أنه "ليس من العسير إطلاقاً أن يظل محترف الموسيقى يسير على سلالم موسيقية علواً وهبوطاً في خطوات متدرجة، مع تنوع يسير في زمن كل صوت، وإنما العسير حقاً أن يؤلف لحناً قوامه تلك القفزات الصوتية الجريئة التي يتكون منها اللحن في الموسيقى الغربية".
حديث زكريا يثير عدداً من الإشكالات التي لم يقدم عنها إجابات متماسكة. وفي مقدمة هذه الإشكالات، أن الرجل يتجاهل تماماً طبيعة المزاج الشرقي، وتلك الروح التي ميزت دائماً هذا الجزء من العالم. كان الشرق دائماً أميل في فنونه إلى أنماط تمنح النفس أكبر قدر من السكينة، والهدوء، والتأمل. وفي الشرق نشأت الأديان الكبرى في العالم: الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية.
ولا ريب أن الطقوس والشعائر الدينية تركت أثرها العميق على موسيقى الشرق، فكانت ألحانه دائماً أميل إلى التدرج، واتسمت بالتصاعدية المنطقية التي تساعد على ترسيخ الطمأنينة، وابتعدت في أغلبها عن القفزات بين الأصوات المتباعدة، ولا سيما إذا كانت القفزات من ذلك النوع غير المنتظم الذي يرضي ذوق الأكاديمي الراحل.
ويمكن لأي معجب بموسيقى الشرق أن يواجه كلام زكريا بنفس طريقته، فيقول: إن الموسيقى الغربية تتسم بالتباعد بين الأصوات، وهي سمة تؤدي بالمستمع المتمرس إلى حالة من التوتر والتشويش، ولا ترضي إلا أصحاب الذوق البدائي المعجب بالعشوائية والصخب، كما أن تأليف الألحان بها سهل وميسور، إذ لا يحتاج إلا تباعداً بين الأصوات، سواء أنتج ذلك التأليف لحناً متسقاً أم متنافراً، وهو ما سلمت منه الموسيقى الشرقية، التي تجنح في أغلبها إلى التلاصق الصوتي، الذي يعد قيداً يجعل من التأليف الموسيقي مهمة صعبة، لا يستطيعها إلا صحاب القدرة على الإبداع في المساحات الضيقة، بالحفر الصعب في العمق، لا بالانتشار السطحي الساذج.
ومن أهم ما ينتقده زكريا في الموسيقى الشرقية أنها ما زالت معتمدة على "الكلمات"، يعني أن الغناء يغلب فيها على الموسيقى المحضة، أو ما يعرف بالتأليف الآلي، الذي يقصد به إبداعاً موسيقياً يعبر عن "موضوع"، لا أن يكون مجرد نغمات جميلة، فـ"السماعيات" و"البشارف" والتقاسيم المرتجلة لا قيمة لها عند زكريا. هو يريد موسيقى، تعبر عن قصص وملاحم وقصائد، من دون أن تلجأ إلى الغناء البشري. ولأن الموسيقى الشرقية الآلية لا تعرف -برأيه- هذا النوع من التأليف، فقد أصدر الرجل حكماً ينص على أنه "ليس لدينا في الشرق فن موسيقي بالمعنى الصحيح".
ويبدو أن "المعنى الصحيح" عند زكريا يتمثل في إلغاء كل سمات الموسيقى الشرقية، كي تتطابق مع الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهو يرى أن "الموسيقى الغربية قد استقلت عن الشعر والغناء منذ زمن بعيد، وتمكنت من أداء رسالتها التعبيرية كاملة".. ويتساءل مستنكراً: "ما هي الخطوات التي خطتها الموسيقى الشرقية في طريق الاستقلال؟ إنها لا تملك بذاتها أية قدرة تعبيرية، إنها تقف عاجزة عن التعبير عن أي معنى أو أي عاطفة".
كما ينتقد زكريا في الموسيقى الشرقية ما سماه "الرجوع الدائم إلى القرار"، إذ لا يعجبه الشعور بالاكتفاء الذي يسببه الاستقرار على قرار المقام عقب كل فقرة من الغناء أو جملة من التقاسيم، ما يجعل هذه الموسيقى -في نظره- مكونة من دورات قصيرة مقفلة، تلقى استحسان المستمع، وتستخرج منه "آه" تكون غالباً من نفس طبقة القفلة، أما الموسيقى الغربية "الراقية" فلا تقف عند القرار إلا في ختام القطعة، أو في ختام جزء مهم منها.
ويرى زكريا أن هذه الطريقة الغربية تصنع مستمعاً صبوراً مثابراً يتتبع بإنصات تفاصيل العمل، إلى أن تتجمع خيوطه في النهاية، وعلى العكس، تصنع العودة المتكررة إلى القرار في الموسيقى الشرقية مستمعاً عجولاً، يسعى إلى متعة عاجلة، يمنيها به المطرب أو العازف في كل أجزاء اللحن.
لكن زكريا لم يجب عن الأسئلة المشروعة لقارئ كتابه: ما الذي يجعل الوقف المتكرر على القرار عيباً وترك الوقف عليه ميزة؟ ولم لا يعتبر أن "القفلة" هي بذاتها من أهم سمات الموسيقى والغناء في الشرق؟ وأن التفنن في أدائها بطرق لا تكاد تنحصر هو من علامات المقدرة والتدريب المتواصل وحيازة المهارات الاستثنائية؟ وكيف نتهم المستمع الذي يطرب للقفلة ويستلذ بها بالتعجل وافتقاد الصبر بالرغم من أنه يجلس مستمعاً متأثراً منفعلاً لساعات طويلة، يترقب فيها مزيداً من التفاصيل، والقفلات المطربة، والتصعيد المتوالي وصولاً إلى الذروة وختام العمل؟
وإذا كان كتاب "التعبير الموسيقي" حمل كثيراً من الانتقاد بل الازدراء بالموسيقى الشرقية، فإن كتاب "مع الموسيقى" الذي أصدره زكريا عام 1968، خطا خطوات أبعد، في تمجيد الموسيقى الغربية، وأطال أحياناً في الدفاع عن بعض المظاهر التي كانت دائماً محلاً للانتقاد في الموسيقى الغربية. فالرجل يعترف أن الغناء الكلاسيكي الغربي، ولا سيما في الأوبرا، يصل أحياناً إلى حد "الصراخ"، وأن كثيراً من الغربيين أنفسهم لا يفهمون ما يقوله المغني أو المغنية، لكنه يعتبر ذلك من مظاهر تقدم الغناء الغربي، الذي يستهدف في المقام الأول تحقيق كل ما في الصوت البشري من إمكانات، ولا يعنيه توصيل الكلمات.
يأخذ زكريا على الغناء الشرقي حرص المطرب على سلامة الحروف، وإيضاح مقاطع الكلمات، ونقل معاني النص، ويرى أن ذلك يأتي على حساب إظهار إمكانات الصوت، والوصول بها إلى أقصى نقطة ممكنة، ويرجع صعوبة تذوق الغناء الأوبرالي الغربي إلى عادات الاستماع التي تكونت بسبب طرق الغناء الشرقي، الذي يراه أقرب إلى الكلام العادي.
وقد كان من الممكن تفهم هذا الرأي من زكريا، لو أنه قصر حكمه على الغناء المعاصر، أثناء تأليفه كتابه أواخر الستينيات، لكنه يطلق حكمه على الغناء الشرقي كله، لا فرق عنده بين طرب عصر النهضة مثلاً، وبين غناء النصف الثاني من القرن العشرين، ولا بين صالح عبد الحي وهاني شاكر، ولا بين "برضاك يا خالقي" لأم كلثوم و"أهواك" لعبد الحليم حافظ.. فكل هذا مجرد أداء أقرب إلى الكلام لا الغناء، لأن المطرب لم يصل فيه إلى حد "الصراخ" الأوبرالي، الذي لا تستبين أكثر كلماته حتى للمستمع الغربي باعتراف زكريا.
يرى الرجل أن الصوت البشري يجب استخدامه بنفس أسلوب استخدام الآلات، من دون النظر إلى المعنى، وهو ما يعني أن يتساوى تلحين النصوص مع التأليف الآلي، وأن تنمحي فكرة "القوالب" المبنية على شكل الكلمات، وألا ينشغل الملحن بكون العمل الفني قصيدة أو موشحاً أو دوراً أو منولوجاً أو محاورة أو طقطوقة، وإنما يجب أن يصرف جهده ليستخرج بلحنه أكبر قدر ممكن من الطاقة الصوتية للمطرب.
يكاد منهج فؤاد زكريا في تعامله مع الموسيقى الشرقية أن يتلخص في نسق رياضي، يتكون من مقدمة غالباً ما تكون صحيحة، ثم يرتب على هذه المقدمة نتيجة وسيطة، غالباً ما تستند إلى معايير ذاتية، ثم يخلص منها إلى نتيجة نهائية وحكم بات.
فطريقته يمكن أن تتلخص في تلك الصياغة: الموسيقى الشرقية تتسم بالعودة للقرار- العودة للقرار تنتج موسيقى قصيرة النفس وتصنع مستمعاً عجولاً- وبما أن الموسيقى الغربية لا تعود إلى القرار إلا في ختام القطعة- إذن، فالموسيقى الشرقية متخلفة.. أو أن يقول: الإيقاع في الموسيقى الشرقية ظاهر- ظهور الإيقاع يخاطب الجسد- وبما أن الإيقاع في الموسيقى الغربية ضمني غير ظاهر، إذن فالموسيقى الشرقية بدائية ساذجة.
تتكون الموسيقى الشرقية من ركنين أساسيين: المقامات والإيقاعات، ومن خلال هذين الركنين تأتي العملية التلحينية، وبعد التلحين يأتي الغناء. وقد رفض فؤاد زكريا أن يكون التنوع المقامي ميزة، بل اعتبره عيباً وجموداً، وكذلك اعتبر الإيقاعات الشرقية بدائية وسذاجة، ورأى أن الألحان الشرقية تتسم بالتلاصق والتماثل، وتوج موقفه برفض أسلوب الغناء الشرقي، واعتبره مجرد كلام يحبس طاقات الصوت. والحقيقة أن التخلي عن هذه الأركان، يعني أن تختفي الموسيقى الشرقية، وأن ينقرض الغناء العربي. لا يريد الباحث المصري الراحل تنوعاً ولا اختلافاً.. يريد موسيقى غربية، من إنتاج مصانع الشرق.