غبريال يمين: أداءٌ يتبلور فيلماً تلو آخر

28 أكتوبر 2022
غبريال يمين ومايا داغر في "غود مورنينغ": أداء احترافيّ (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في جلوسه اليومي على الكرسيّ نفسه، أمام الطاولة نفسها، في المقهى نفسه، يعاين الطبيب (غبريال يمّين) يوميات أناس يمرّون في الشارع، ويتابع بعض الراهن، ويستعيد بعض الذاكرة، رفقة صديقه الوحيد، الجنرال (عالد شاهين). عجوزان يمضيان بعض الوقت معاً، كلّ يومٍ، يتبادلان فيه أحاديث آنيّة وماضية، ويلعبان الكلمات المتقاطعة، ويرافقان صحافياً (رودريغ سليمان) ونادلة (مايا داغر) ينمو الحبّ بينهما تدريجياً، رغم مصاعب مرتبطة بأحوال البلد واجتماعه.

هذا كلّه في "غود مورنينغ" (2018) للّبناني بهيج حجيج، في ثاني تعاون له مع يمّين، بعد "شتّي يا دني" (2010). "غود مورنينغ" يمنح يمّين ـ المُكرَّم في احتفال "موركس دور" (لبنان) عن مجمل أعماله (16 أكتوبر/تشرين الأول 2022) ـ مساحةً إضافية، تُتيح له تقديم بعض ما لديه من جمال أداءٍ وتعبير، وهذا منبثقٌ من احترافه المسرح أساساً، وله قريباً عملٌ جديد فيه، بعنوان "رحيل" (بين 14 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في "مسرح المدينة"، بيروت). أداءٌ يُزيل كلّ قاعدة تمثيلية، كي يصنع من عفوية الحضور امتداداً لحِرفية المهنة، ويأخذ من اختباراته المتواصلة ما يُبلور كيفية اشتغاله على شخصيةٍ أو مناخٍ أو فضاء أو علاقة.

هذا يتوافق مع النصّ والإخراج وإدارة التمثيل، في أفلامٍ سينمائية عدّة، يؤدّي غبريال يمّين فيها أدواراً مختلفة، فيمنح الشخصيات ما يجعلها تتجاوز التمثيل الاحترافيّ إلى معنى الحياة ونبضها وانفعالاتها. ورغم ما يمتلكه من حساسية فنية، معقودة على معرفة واختبارات؛ ورغم بروزه الأقوى في المسرح (له أعمال تلفزيونية أيضاً)، فالمسرح بالنسبة إليه عيشٌ وتمارين على مواجهة الحياة واكتشافها؛ لا تزال السينما غير مستفيدة من طاقته التمثيلية، التي تكشف، فيلماً تلو آخر، بعض تطوّر في الأداء على الأقلّ، وبعض بلورة في الاشتغال على الأقلّ، يتقدّمان على تطوّر وبلورة سابقين.

أي أنّ يمين، في تمثيله السينمائيّ، رغم قلّته، يمنح كلّ شخصية جديدة شيئاً من استفادة له في تمرينٍ سابق ودائم، يُتقن اختباره في الحياة والعمل والتفكير. مخزونه الثقافي والفكري والمهني، المتجدّد دائماً (كما يظهر في كلّ دور، مسرحي وسينمائي)، قابلٌ لتقدّم دائمٍ في آلية اشتغال، وإنْ يكن هذا الفيلم أو ذاك مُبسّطاً، أو غير قادر على ترجمة سينمائية لنصّه المنشغل بحالةٍ أو بيئة أو أناسٍ.

حسّه الكوميدي في شخصيته التمثيلية بارز، لكنّ السخرية والمرارة تنبثقان منه (الحس الكوميدي) في كيفية عيش الشخصية حالتها ويومياتها. "يربو بعزّكن" (2019) لديفيد أوريان مثلٌ سينمائيّ أخير، يؤدّي يمّين فيه دور مدير مستشفى، يعشق شارل أزنافور، ويجهد في إدارة مهنةٍ صعبة، في بلدٍ مُصاب بأزمات سابقة على الانهيارات اللبنانية الكبيرة.

 

 

في مهنته هذه، يتنقّل يمّين بين جدّية المنصب، وقلق المدير إزاء فلتان ربما ينعكس سلباً عليه، وكوميدية مبسّطة في تأديته لحظات إحراج وخوف ومواجهة مفتعلة قبل التراجع والانصياع. بملامح وجهه وحركات جسده ويديه، وبتلك النظرة الملتبسة، أحياناً، بين مشاعر ورغبات متناقضة، يصنع يمّين دوراً جميلاً، في فيلمٍ غير مُدّع بقدر ما يعاين حالات اجتماعية لبنانية (أهمية الابن على الابنة، تصرّف المستشفيات إزاء الفقراء، علاقات طبقية، إلخ.) ببساطة وسلاسة، لا تصنّع فيهما ولا ادّعاءات، فالفيلم أصلاً غير راغب في عمقٍ فكري وتحليل نفسي واجتماعي، لكونه محاولة جميلة ومتواضعة، تتناول واقعاً يومياً مهمّاً بشيءٍ من الكوميديا.

"ميلودراما حبيبي (2008) لهاني طمبا و"ورقة بيضا" (2017) لهنري بارجيس مثلان آخران على ارتباك التساوي بين نصّ/موضوع مهمّ وأساسيّ في يوميات وحالات وانفعالات، واشتغال سينمائيّ عاديّ للغاية، إنْ لم يكن أقلّ من عادي. فيهما، يحافظ غبريال يمّين على حضورٍ يكاد يطغى على آخرين وأخريات، من دون التقليل من أهمية ما يؤدّيه هؤلاء.

نصّ يتوغّل في وقائع حياةٍ لبنانية (قمار ومخدّرات وعلاقات متعدّدة بين رجال ونساء وعصابات)، لكنّ ترجمته السينمائية مرتبكةٌ في المعالجة والتقنيات (ورقة بيضا). المحاولة الكوميدية الموسيقية الغنائية في "ميلودراما حبيبي" أفضل، كتابةً ومعالجةً سينمائية. ليمّين فيها دورٌ يبدو كأنّه تأسيسيّ لمسار سينمائيّ لاحق. إطلالته في مشاهد مختلفة تشي بحِرفيّةٍ، لكنّها (الإطلالة) تنحو إلى هدوءٍ غير مُفتعل في تأدية الدور، وكشف الشخصية.

سينمائياً، يستحقّ غبريال يمّين أفلاماً أكثر وأعمق وأهمّ، فمخزونه الأدائيّ قابلٌ لأدوار/شخصيات تمزج الكوميديا السوداء بمرارة اللحظة، وملامحه تتماهى بالكاميرا في علاقة انسجام وحبّ، ما يُتيح لها أنْ تأخذ منه الأجمل دائماً، فيمنحها أكثر مما تطلبه، غالباً.

المساهمون