"هل يمكن لمغنّي راب أن يغيّر عقلية الإيطاليين حول المهاجرين؟". تحت هذا العنوان المُتسائِل، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريراً مطوّلاً، في الثاني من أغسطس/آب 2023، عن المغنّي التونسي ـ الإيطالي غالي، محاورةً إيّاه ومناقشةً الدور السياسي الذي يمكن له أن يلعبه كشخصية عامة يتابعها ملايين الشباب الإيطاليين، خصوصاً أنه من أشهر المدافعين في البلد عن قضايا المهاجرين وحقوقهم. لكنّ آراء غالي عمدوني (وهو اسمه الكامل) السياسية والإنسانية لا تتوقّف عند مسألة اللجوء والهجرة، وهو ما برهن عليه في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، من خلال وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزّة في حرب الإبادة التي تشنّها عليه، منذ أربعة أشهر، دولة الاحتلال الإسرائيلي.
قبل أيام، صعد غالي على خشبة "مسرح أرتيسون" في مدينة سان ريمو الإيطالية (شمال غرب)، مشاركاً في مهرجانها الذي يُعَد أكثر المواعيد الموسيقية السنوية متابعةً (على شاشة "راي" العمومية، تابع يومَ المهرجان النهائي، وحده، الذي أُقيم في العاشر من فبراير/ شباط الجاري، أكثرُ من 17 مليون مشاهد). وللمنافسة على المركز الأوّل في المهرجان، الذي يمثّل الفائز به إيطاليا في مسابقة "يوروفيجن"، اختار الفنّان الشاب (مواليد 1993 في ميلانو) أن يغني عملاً جديداً بعنوان Casa mia، أو "بيتي".
بهدوء نسبيّ يبدأ غالي أغنيته: "العشب أخضر، أكثر خُضرةً، أكثر خُضرةً. والسماء زرقاء، زرقاء، أكثر زُرقةً، أكثر زرقةً". ثم ينتقل، بعد عدّة كوبليهات، إلى قلب مقطوعته: "أحنّ إلى منطقتي، أحنّ إلى حيّي، حيث ثمة الآن إطلاقُ رصاص. يا أنت، هناك، اهرب من صالة الرقص. هي دائماً القصة نفسها، مع أني لا أحبّ إثارة القصص. لكنْ كيف يمكنك أن تقول إن كل شيء طبيعي هنا؟ أن تضع خطوطاً وهمية لترسم حدوداً، وأن تقصف مستشفى من أجل قطعة خبز أو قطعة أرض؟ ليس ثمّة سلام هنا".
لم تعجب الكلمات الأخيرة جماعات المحافظين في إيطاليا والداعمين فيها للكيان الصهيوني. مئات التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، وعشرات الأخبار والمقالات، التي نُشر بعضُها مع صوره وهو يعتمر الكوفية الفلسطينية، رأت أن المغنّي يُشير بكلماته هذه إلى غزّة والقصف الذي عرفته (وما زالت تعرفه) مستشفياتها، متّهمةً إياه بـ"تسييس" المهرجان ونشر "دعاية مضادّة لإسرائيل"، كما فعل، على سبيل المثال، والكر مغناني، ممثّل الجالية اليهودية في ميلانو، مسقط رأس غالي. هذا الأخير، الذي لم يُخفِ يوماً موقفه من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ردّ على منتقديه بمنشور على حسابه في "إنستغرام" (يتابعه عليه أكثر من 3 ملايين شخص)، وممّا جاء فيه: "إذا كانت أغنيتي تضيء ما على ندّعي أننا لا نراه، فليكن. لا يمكننا التظاهر بأن شيئاً ما لا يحدث: على المرء أن يتّخذ موقفاً كي لا يصبح صمتُه موافقةً على ما يحدث".
حدّة الغيظ من مواقفه هذه ستتصاعد في اليوم الختامي للمسابقة، التي حلّ فيها رابعاً (بين أكثر من 30 مشاركاً من أبرز المغنّين الشباب في البلد). مساء السبت، وقُبيل مغادرته المسرح، أطلق الشاب المولود لأبوين تونسيين هاجرا إلى إيطاليا: "أوقفوا الإبادة الجماعية". صرخةٌ لم تمرّ، مرّة أخرى، من دون إزعاج ممثّلي الدعم للكيان الصهيوني في إيطاليا، وعلى رأسهم سفير الكيان إلى روما، آلون بار، الذي انتقد "استغلال" المنبر الموسيقي، واصفاً مطالبة الفنّان بوقف الإبادة بأنها "نشرٌ للكراهية واستفزازٌ".
غالي ردّ، بهدوئه المعتاد: "لطالما تحدّثت عن قضايا كهذه منذ أن كنت طفلاً، وليس منذ 7 أكتوبر. ليس جيداً أن يتحدّث السفير (الإسرائيلي) بهذه الطريقة. فسياسة الترهيب مستمرة، والجميع بات يخاف من الدعوة إلى وقف الحرب والإبادة. إننا نعيش في زمن يخاف فيه الناس من فقدان شيء ما لو دعوا إلى العيش بسلام".
موقف الفنان لقي دعماً واسعاً من نظرائه من الفنّانين أو من شخصيات من اليسار السياسي الإيطالي، وحتى من الشارع، إذ خرجت تظاهرات عدّة، أبرزها تلك التي أُقيمت أمس في نابولي، جنوبي البلاد، بالقرب من مقرّ قناة "راي" الحكومية، الناقلة للمهرجان، والتي وجّه مديرها رسالة تقرُّب إلى إسرائيل وسفيرها، واعداً بأن القناة ستستمرّ ببث برامج وأخبار حول الكيان الصهيوني. خيارٌ لا يعبّر بالضرورة عن الموقف الشعبي الإيطالي تجاه المجازر في قطاع غزّة. فقد أشارت دراسة نشرها مركز الأبحاث "كوروم/يوتريند"، في التاسع والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، إلى أن 58 في المئة من الإيطاليين يرفضون استمرار الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزّة (مقابل 26 في المئة ممّن يوافقون عليه، و16 في المئة ممّن ليس عندهم رأي في هذه المسألة).