"عودة السنونو" يتحدّى الرقابة الصينية: تحفة من دون مؤثّرات صوتية

17 مارس 2023
"عودة السنونو": نجاح شعبي لقصة حب جميلة (الملف الصحافي)
+ الخط -

بعد مشاهدة فيلمٍ كهذا، ربما يندهش المرء حين يعلم بنجاحه الشعبيّ الكبير في بلده. ربما يسيء الظنّ بقدرة الإنسان المعاصر على اكتشاف مشاعر عميقة، متوارية خلف انبهارٍ بتقنياتٍ وجري وراء صرعاتٍ. شهران شهد خلالهما فيلمٌ، لم تتجاوز ميزانيته ربع مليون يورو، إقبالاً مذهلاً في الصين. شهران حقّق فيهما أرباحاً بلغت 13 مليون يورو. السلطات الصينية لفتها هذا النجاح وأقلقها، فقرّرتْ وقف عرضه.

قبل ذلك، حين شارك "عودة السنونو" (2022)، للصيني لي رايجون، في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، كانت نهايتُه مُعدّلة، بناءً على طلب الرقابة الصينية، التي ظنّت، ربما، أنّ هذا كافٍ لانضوائه في فئة الأفلام التي لا تشكّل "خطورة" على سمعة بلدٍ، أعلن تخلّصه من الفقر نهائياً. وعندما حان موعد عرضه في الصين، اعتقدتْ، خاطئةً، أنّ فيلماً كهذا لن يجذب الناس، فمن سيُقبِل هناك على فيلمٍ مُتقشّف الميزانية والحوار، بطلاه زوجان ناضجان يُقيمان على هامش المجتمع، ويعيشان العوز، ويكتفيان بما تمنحه لهما الأرض والسماء.

مُنع الفيلم. لكنّ باباً آخر انفتح مع المنصّات الرقميّة، فكان الإقبال كاسحاً على "المُختَبئ في بلد الرماد والدخان" (العنوان الصيني). عرف الفيلم المصير نفسه من السلطات، التي حجبته، وفرضت على مخرجه إقامة جبرية. اليوم، نافذةٌ أخرى مُشرّعة أمامه: إنّه يُعرض في فرنسا.

لكنْ: ما سرّ عدم إعجاب الرقابة به؟ بالتأكيد، ليست قصّة الحبّ، غير المألوفة والرائعة، بين شخصين هامشيين، تحتقرهما عائلتاهما. ليست قصّة زواجهما المرتّب، ولا خجلهما الذي يفسح، شيئاً فشيئاً، الطريق للعاطفة بينهما، فيما تنهار الحياة الريفية حولهما.

في جلسة نسائية، امرأةٌ مُطرقة. شعرها يغطي جزءاً من وجهها. تبدو مُعوّقة. لا تنطق. تكتفي بسماع قرارات آخرين بشأنها. هناك عائلتان قرّرتا التخلّص من فردين، بتزويجهما، هي ورجل عجوز. عشٌّ، وصفٌ يليق بالمكان الذي يصلان إليه على ظهر حمار أنيس. لم تتّضح الصورة، من اللقطات الأولى. بدا الحوار ضبابيّ المغزى، وغريباً. حديثٌ عن امرأةٍ لا تقدر على التحكّم بنفسها، وبحاجتها الطبيعية، بينما رجل يخاطب حماره بودّ، في ساحة البيت، تحت أمطار غزيرة، تُبلّل كلّ شيء، وتُحوّل دروباً وساحات إلى كتلٍ من وحل كثيف.

من البداية، تُعلن العدسة عن حشمةٍ جليّة، تردع اقتراباً من الشخصيتين الرئيسيتين، الرجل يوسي والمرأة غوينغ. ستبقى بعيدة عنهما، وسيبقيان كأطياف بلا ملامح واضحة في أمكنتهما، سواء ضاقت عليهما أم اتسعت، إلى أنْ يحصل تطوّر عميق في علاقتهما. كأنّها تتركهما يدبّران حياتهما البسيطة بمفردهما، فينظّمان الأيام والعمل بحسب الفصول، ويبنيان معاً بيتاً من الطوب، ويزرعان الأرض، من دون ثرثرة ولا بؤس. يشقيان على هامش مجتمعٍ ينظر إلى تآلفهما السريع بشيء من استغرابٍ، تشوبه غيرة وتساؤل. كيف تآلفت هاتان الروحان؟

هي (هاي كينغ، ممثلة مشهورة في الصين) عاشت، إلى ما قبل زواجها، محبوسةً في قنّ، تُضرَب باستمرار من عائلتها، كأنّها نقمةٌ، وفمّ آخر لإطعامه. هو (وو رنلن، خال المخرج) تقدّم به العمر في أرضٍ، يسعى فيها لوحده. لا يطلب عوناً. مُستغنٍ. لكنّه مُستعد ليهب دماً نادراً يجري في عروقه إلى قريب غني. يفعل ما يفعل، كأنّه أمر طبيعي. يرفض مقابلاً له، حتّى لو كان هدية. يكدّ، صبحاً ومساءً، ليبيع محصولاً لقريب شابٍ مُستغلٍ.

 

 

مشاهد زرع وحرث وقطاف تتكرّر وتتوالى، كأنّها توثّق عالماً يمضي بلا رجعة. تبدي احتراماً لهذا العمل اليدوي. لا مؤثّرات صوتية، إلّا أنغام الطبيعة، وأمطارها ورياحها، وزقزقة سنونواتها. شخصيات متعلّقة بالأرض، تعيش على إيقاع فصولها. تتقبّل الطبيعة ونزواتها. شخصياتٌ يندر أنْ تجسّدها السينما الصينية بهذا العمق. الشخصيتان تتلاءمان مع الأرض، وإحداهما مع الأخرى، في علاقةٍ تتشكّل على مدار الأيام، ببطءٍ إنما بعزمٍ، وبصمتٍ تتخلّله ايماءات ولمسة يد وضحكة خجولة، وأحياناً حوار بسيط، يُبدي ارتباطاً لا ينفصم مع مشاق اليوميات. يكتفيان بعزلتهما مع الأرض، بعيداً عن أهل القرية. حين يحضر هؤلاء في مشهدٍ، يُزعجون بتعليقاتٍ حول علاقة يرونها غريبة، أو بمحاولات التأثير في نمط عيش الزوجين. يقضون، بحضورهم، على إيقاعٍ رتيب، لكنّه غير ممل، يسير عليه الفيلم. على اندماج في سيرورة حياة، تبدو مؤقّتة بسعادتها. كأنّ هؤلاء الدخلاء يذكّرون بعالمٍ لن يتركهما في حالهما. عالم قبيح ومدمّر، يهيء لما سيأتي.

يبني لي رايجون، كاتب النصّ والمولِّف أيضاً، هذه العلاقة تدريجباً، من دون تطفّل. يمنحها، و يمنح بطليه، الوقت لبنائها، ولتتّضح تدريجياً ملامحهما، ولتتجرّأ الكاميرا على الاقتراب منهما، لا سيما منها، كأنّها باتت ـ وهي تتلقّى مشاعر لم يهبها لها أحدٌ قبلاً ـ إنساناً له ملامح. في لقطات طويلة ثابتة، يوثّق لي رايجون كلّ تلقائية، من دون أدنى افتعال، حياة ريفية يحترمها ويتوق إليها. سعيدة على فقرها، تندثر مع سياسة تحديث ينتقدها. قرويون يغادرون قراهم، ويعودون لقبض أثمانِ بيوتهم الطينية، التي ستهدمها جرّافات الحداثة، لتبني مكانها، ومكان الأرض الخصبة، عمارات. هناك نفوسٌ تتهاوى أمام التحوّلات. لعلّ هذا الحنين إلى أمكنة تندثر، وعالمٍ ريفي يُغتال ويتحوّل إلى أطلال أمام ضربات الحداثة، سرّ الإقبال على هذا الفيلم الرائع.

العتب الوحيد عليه أسلوب نهايته المؤسفة، التي بدت غريبة وغير مقنعة. لكنّ الأمر بات أوضح، بعد معرفة التعديل الذي طال النهاية، والذي فرضته الرقابة على لي رايجون. فالموت لا يحدث في الريف الصيني بسبب نقص الإمكانات، بل بسبب غباء الفرد.

فيلم تحفة باشتغالاته المعمّقة على العلاقة بين الأرض والبشر، والطبيعة والحياة الريفية، والوجود والموت، في عالم يتغيّر دائماً، يبدو فيه هؤلاء، غير الملائمين للحياة الحديثة، بقايا زمن محكومٍ عليه بالزوال. يرسم لي رايجون (1983) الصين كما فعل في أفلامٍ سابقة له. يختار أمكنة يعرفها في مسقط رأسه في شمالي البلد، ويُشرك أصدقاءه وأسرته فيها. أمضى مع عائلته أشهراً في منطقته الريفية. زرعوا بأنفسهم الأرض وحرثوها، لتبدو كما بدت في الفيلم، وليبنوا البيت الذي بناه البطلان فيه. بينما تقاليد الأجداد آخذة في الاختفاء، لصالح التحضّر القسري، أراد لي رايجون، كما يقول، الاحتفاظ بأثرٍ لهذا الوجود الريفي البسيط، إجلالاً لهذه الأرض التي غذّتْ روحه، وبقيت مصدر إلهامه الرئيسي.

المساهمون