يُعاني النقد السينمائي، اللبناني تحديداً، مأزقاً أخلاقياً، يتمثّل بسطوة التسطيح والمبالغة في قول رأي، يُفترض به (الرأي) ألّا يبلغ مرتبة الشتم والتقريع، أو ذروة المدح والتعظيم. وسائل التواصل الاجتماعي، والبعض يستسيغ استخدام "سوشال ميديا" عندما يذكرها، مساحة شاسعة لكلّ أنواع القول، بما فيها الشتم والتقريع، فلا ضوابط ولا قوانين ولا متطلّبات.
الكتابة النقدية ـ في صحفٍ ومجلات (إنْ تكن هناك صحف ومجلات، في زمن الانهيارات اللبنانية المختلفة) ومواقع إلكترونية (هذه تحتاج إلى نقاشٍ، فبعضها شبيهٌ بوسائل التواصل الاجتماعي، وقلّة منها تبغي اشتغالاً مهنيّاً سويّاً) ـ تفتقد مستلزماتٍ أساسية، يُبنى عليها نصٌّ قادر على إثراء النقاش والاستمرار فيه، ومُتمكّن من جعل مضمونه وشكله وأسلوبه مرايا مرحلةٍ، بثقافتها واجتماعها واقتصادها وبيئاتها.
الانهيارات اللبنانية عاصفةٌ بكلّ شيءٍ، والصحف والمجلات اللبنانية منتهيةٌ منذ سنين، بقبول غالبيتها الساحقة الانصياع إلى أجندات سياسية ـ طائفية ـ اقتصادية، تتنازع فيما بينها على مصالح ومناصب، أو برضوخها لمشيئة صاحب المال. صحفٌ ومجلات كهذه تُضحّي بالثقافة عند أول أزمة مالية/مهنية تواجهها، والسينما أولى ضحايا التضحية بالثقافة في تلك المؤسّسات، وفي بعضها ادّعاءات ثقافية وفكرية علنية، غير متوافقة، كثيراً ودائماً، مع الظاهر في أقوال مؤسّسٍ أو ناشرٍ أو رئيس تحرير أو صاحب مال.
صحف ومجلات لبنانية "عريقة" مختفية منذ أعوام، إمّا إغلاقاً تامّاً لأسبابٍ، يتداخل فيها الشخصي بالعام والمالي بالمهني؛ وإمّا وقوعاً في مطبات الانشقاقات الطائفية السياسية الخانقة، وفي غيابٍ واضح للمهنية الصحافية، وفي خنوعٍ لأصحاب المال. النقد السينمائي، في صحفٍ ومجلات لبنانية (صحفٌ يومية قليلة تُصرّ على الصدور، والغالبية الساحقة من المجلات الأسبوعية والشهرية غائبةٌ كلّياً)، يتحوّل إلى بيانات حزبية بعثية، تمتلئ بشتائم، مبطّنة ومباشرة، وبتقريع منبثق من تفكير سلطوي، وبـ"أستذة" تُلقِّن القارئ/القارئة كيفية المُشاهدة و"النقاش".
يُضاف إلى هذا غيابٌ شبه تام لأي مراجعةٍ تحريرية، فكتبةُ مقالاتٍ عدّة، تدّعي نقداً سينمائياً، يُخطئون في معلوماتٍ ولا أحد ينتبه، ويتشاوفون في تصدير آراءٍ، يُجمع مهتمّون/مهتمّات بالسينما وثقافتها وجمالياتها على أنّها (الآراء) شتمٌ وتقريع، مكتوبَين بلغةٍ فوقية/استعلائية، وغير متوافِقَين، غالباً، مع ما يُكتَب عنه، بصرياً وفنياً ودرامياً وجمالياً. وهذا، إذْ يُبرَّر نشره في وسائل تواصل اجتماعي، يستحيل قبوله في نصوصٍ، يُراد لها أنْ تكون نقدية، تُنشر في صحفٍ. المأزق أنّ استحالة القبول ينتفي معناها، عندما تُنشر مقالات كهذه في صحفٍ، تُهدِّد كلَّ خارج عن صراطها وإيديولوجيتها وانتماءاتها، الطائفية والحزبية والأمنية، بالقتل والتغييب.
لكنْ، أيُمكن المُطالبة بنقدٍ، ثقافي وفني عام، وسينمائي بشكلٍ خاص، أنْ يُحافِظ على أصوله ووعيه المعرفي وانفتاحه على كلّ نقاشٍ، والنقد هذا يُنشر في صحفٍ بعثية بوليسية قامعة ومُهدِّدة؟ ماذا عمّا يتردّد، بين حين وآخر، من أنّ كتابات، يصفها كَتَبتُها بأنّها نقد سينمائي، مطلوبة من "قيادة" التحرير؛ وأنّ الأسلوب المستَخدَم فيها سمة أساسية في تلك الصحف؟ أيُمكن التغاضي عن حضور الأزمة، أخلاقياً ومهنياً وثقافياً أولاً، في الاشتغال المهنيّ، ومعظم الصحف اللبنانية الصادرة يومياً غير معنية بالثقافة والفنون، إلا بالجوانب الاستعراضية والفضائحية غالباً، من دون التأكّد من صحّة خبر ومعلومة، وعدم التأكّد هذا حاصلٌ، أيضاً، في مقالات تُكتَب بتسرّع، كأنّ المقالة النقدية السينمائية سبقٌ صحافي، والسبق الصحافي منتهٍ في ظلّ "الخدمات السريعة"، واتّساع مساحاتها وأنواعها في العالم؟
حكايةٌ شخصية، ربما تُفيد في نقاشٍ كهذا: مُشاهدة "كوستابرافا" للّبنانية منية عقل، في عرضٍ بيروتي أول (لفترة قصيرة جداً، قبل شهرين من نهاية العام الفائت، تمهيداً لإرساله إلى "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، مانحة جوائز "أوسكار") يُثير غضباً وتوتّراً يدفعان المُشاهد/الناقد إلى شتم الفيلم وتقريعه على صفحته الفيسبوكية، ما يُثير حنقاً لدى عاملين/عاملات فيه، ولدى قرّاء/مُشاهدين مقرّبين من الناقد. هذا خطأ، ربما. لكن وسائل التواصل الاجتماعي مساحةٌ مفتوحة على كلّ شيء، والشتم والتقريع سمتان يمتاز بهما اللبناني/اللبنانية في سهراتٍ ولقاءات خاصة وعامة، تتناول مسائل مختلفة. سمتان يتفنّن قادة البلد وأمراء طوائفه في التعبير عنهما، علناً.
سرد هذه الحكاية الصغيرة منبثقٌ من رغبةٍ في تأكيد المُراد مناقشته: ما يُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي "يُبرَّر"، لكونها مساحات شخصية لقول كلّ شيء، بأي أسلوب. هذا غير منسحبٍ على كتابة نقدية، يُفترض بها أنْ تمتلك شيئاً من أصولها وقواعدها وأخلاقياتها وثقافتها المعرفية. الشتم والتقريع في تلك الوسائل يجب أنْ يتحوّلا إلى نقدٍ مكتوبٍ (إنْ يشأ الناقد/المُشاهد أنْ يكتب، وهذا حقٌّ له، إذْ لن تفرض عليه الأفلام كلّها كتابةً نقدية) بلغةٍ سوية وواضحة وهادئة، واللغة العربية مليئة بكلمات وجمل وآليات صوغ، تُعبِّر كلّها عمّا يُشبه الشتم والتقريع، وللنقد حصّته الكبيرة من اللغة العربية، لكنْ بأسلوب يليق بجمالياتها ومخزونها المعرفي، رغم الحاجة الملحّة إلى تطويرها، لجعلها أقرب إلى العصر الراهن، بكل ما فيه من إيجابيات وكوارث.
كاتبو/كاتبات نقدٍ سينمائيّ، يُنشَر في صحفٍ ومجلات (إنْ تكن موجودة) ومواقع إلكترونية، نادرون للغاية، وبعضهم الأندر متمسّكٌ بأصول المهنة وثقافتها ومتطلّباتها، رغم كلّ شيء. الكَتَبة منتشرون في أمكنةٍ كثيرة، بعضها موبوء، أخلاقياً ومهنياً وثقافياً. هذا حاصلٌ في لبنان. الحاصل في مؤسّسات عربية غير مختلفٍ كثيراً، وبعضه، على الأقلّ، أسوأ وأخطر.