عن نار يجب أنْ تحرق العالم

02 يونيو 2023
"أشكال" ليوسف الشابي: النار تلتهم الجميع (الملف الصحافي)
+ الخط -

مشترك أساسي بين فيلمين تونسيين، إذْ تُروى حكاية كلّ واحد منهما في مدينةٍ تونسية، وأفرادها تونسيون وتونسيات، وفضاء أمكنتها وبيئاتها وأحوالها تونسيّ. "حرقة" (2022) للطفي ناثان و"أشكال" (2022) ليوسف الشابي. المشترك، المنبثق من حالةٍ تونسية واحدة، يقول إنّ المقبل من الأيام "يَعِد" بمزيدٍ من خرابٍ وقهر وخيبات، كأنّ الحلول منعدمة، والواقع شاهدٌ على انعدامها.

يتمثّل المشترك بينهما بالنار. هناك نار فعلية تلتهم أجساداً وأرواحاً، وهناك نار تحاصر وتلاحق وتخنق، لأنّ اليوميّ قاسٍ، والإذلال متفشٍّ، والتعذيب حاضر، وكلّ خطوة، يُراد لها تأسيس انقلابٍ جذري يصنع معجزة الانتصار على الموت، تُعدَم فوراً. والنار، التي لها دلالات في الفلسفة والأدب والأسطورة والعلم، تقول في الفيلمين إنّ مصيراً واحداً ينتظر الجميع، فالخلاص غير آتٍ، والكرامة غير موجودة، على نقيض القهر والتخريب والإهانة.

كلّ فيلمٍ منهما يرتكز على بنى درامية وفنية وجمالية مختلفة. الواقعية القاسية في "حرقة"، وشيءٌ يُشبه الفانتازيا واللامعقول (بل ربما يكون معقولاً للغاية، لما في الواقع الفعلي من لامعقولية قاتلة) في "أشكال". إمعانٌ في الواقعية (حرقة) يبلغ مرتبة صادمة لما فيه من صدقٍ في التقاط نبضِ حياة يومية آنية؛ وميلٌ إلى غرائبية ما (أشكال)، تعكس شيئاً من تلك الحياة نفسها أيضاً. استعارةُ حكاية محمد البوعزيزي، في "حرقة"، أوضح من تلك التي يختارها "أشكال". لكنّ الأهم كامنٌ في تمكّن الصورة السينمائية، بمفرداتها وعوالمها ومساراتها، من مقاربة حالة آنية تضجّ بغضبٍ وقهرٍ وانكسار، وهذا يؤدّي، ربما، إلى انقلابٍ آخر (رغم أنّ الواقع الفعلي، خارج السينما، غير مُبشِّر كثيراً بانقلاب كهذا).

 

 

في "أشكال"، تتجاور الفانتازيا/ اللامعقول مع واقعية النوع البوليسي في السينما. في "حرقة"، يسيطر الواقع الفعلي للحياة اليومية على النصّ السينمائي. تحقيقات متتالية في جرائم قتل غامضة (أشكال)، في مقابل يوميات شابٍ يحتال على الحياة والسلطة كي يؤمّن لقمة عيش، مغمّسة بالإذلال والتعب والتوهان (حرقة). ضحايا جرائم القتل (أشكال) تحترق أجسادهم/ أجسادهنّ بنار تندلع فيها، من دون معرفة مباشرة لأسباب ذلك (القتل، النار، الفاعل). النار تلتهم علي (آدم بيسا) في نهاية "حرقة"، بعد اشتداد الضغط عليه، ومنعه من مقابلة "حاكم" مدينته. النار تجذب أناساً في نهاية "أشكال"، في مشهدٍ يُحيل إلى كوريغرافيا الموت والجحيم. لكنّ النار في "حرقة" تُنهي حياةً، وتُعلن انتماء الحياة نفسها إلى موتٍ دائم.

التحقيقات البوليسية في جرائم القتل الغامضة منتهيةٌ بكشف الجاني، الذي يحترق مراراً ويبقى حيّاً، فـ"يلتهم" ضحاياه بإغرائهم/ إغرائهنّ بالاحتراق (أشكال). سيرة علي تنتهي بإضرام النار في جسده، بعد أعوامٍ من التهامها روحه وحياته وانفعالاته وعيشه (حرقة).

النتيجة واحدة: إنّها النار التي يجب أنْ تُنهي هذا العالم القاهِر والفاسد والقاتل.

المساهمون