عن مهرجانات سينمائية عربية: لا حِرفيّة ومهنيّة بل أمزجة وعلاقات

03 ديسمبر 2021
مهرجان "كانّ" 2007: حرفيّة ومهنيّة غائبتان عربياً (أم ج كيم/ Getty)
+ الخط -

إدارات مهرجانات سينمائية عربية عدّة، تُقام في مدنٍ عربية وغربية، غير مؤهّلة لإدارة وتنظيم يليقان بالسينما، وبنتاجاتها العربية والغربية، وبما يحيط بها من صناعة وصحافة ونقد. المحسوبيات غالبةٌ. عاملون وعاملات في تلك الإدارات يتصرّفون وفق أمزجة وهواجس وعلاقات خاصة بهم وبهنّ، على حساب الصنعة والمهنة. المهرجان السينمائي صنعة ومهنة، تتطلّبان حِرفية عالية، ووعياً معرفياً ناضجاً، والتزاماً بقواعد مهنية بحتة، لا بارتباطات ذاتيّة وشخصية، إنْ تكن الارتباطات إيجابية أو سلبية، والسلبية أسوأ، فسلوك عامل أو عاملة في إدارة مهرجان مع أفرادٍ يعملون في السينما والنقد والصحافة، وفق عداءٍ شخصيّ، يُسيء إلى المهرجان والسينما، بعد إساءته إلى العامل والعاملة، وإلى الإدارة كلّها.

المأزق منبثقٌ من عادة أصيلة في كيفية صُنع مهرجان سينمائي عربي، انطلاقاً من الدعوات المجانية (تذكرة سفر، وإقامة في فنادق، بعضها 5 نجوم، مع مأكلٍ ومشربٍ أحياناً). هذا يُشير ضمناً إلى أنّ صاحب الدعوة يتحكّم بالمدعو وبمهنته، وتحديداً ذاك الذي يعمل في النقد والصحافة والإعلام. الدعوة المجانية تعني، ضمناً، أنّ كلّ قراءة غير مادحةٍ وغير مُتملّقة تؤدّي، غالباً، إلى امتناع إدارة المهرجان عن دعوة صاحبها لاحقاً. ولأنّ الدعوة مجانية، يُتاح للمتحكّم في لوائح الضيوف فرصة اختيار من يشاء، بحسب علاقته بمن سيُدعى. الطامة الكبرى تحصل إنْ يكن المتحكّم في تلك اللوائح ملحقاً/ ملحقة صحافياً لمخرج أو مخرجة، والمدعو ناقدٌ له قراءات نقدية في أفلامٍ لهذا المخرج أو لتلك المخرجة، والقراءات غير مُستحَبّة، لأنها غير متزلّفةٍ.

يقول مدير مهرجان عربي لناقدٍ (التحفّظ عن ذكر الاسمين متأتٍ من عدم وجود دليل ملموسٍ على هذا القول) إنّ لديه مشكلة في مسألة الدعوات: "هل سأدفع تكاليف مختلفة لدعوة ناقدٍ، ثم يكتب الناقد ما لا يتلاءم والمهرجان؟". الدعوات المجانية مصيبة، وإلغاؤها عربياً يؤثّر سلباً على مهرجانات تريد مديحاً، ومعظم المدعوين والمدعوات يوافقون ضمناً على المديح، فالسفر مطلبٌ يتجاوز السينما إلى التسوّق والنزهة والسياحة. إدارات مهرجانات عربية قليلة تُكرِّم نقّاداً وصحافيين سينمائيين، فتكون الدعوة مجانية والكتابة حرّة، وهذا مهمّ وأساسيّ.

أما المزاج فأسوأ الحاصل في إدارات مهرجانات. متحكّمون ومتحكّمات بلوائح الدعوات يُلغون أسماءً ويُضيفون أخرى وفق علاقاتهم وعلاقاتهنّ بأصحاب تلك الأسماء. هذا يُسقط عن المهرجان حرفيّته ومهنيّته ومعناه. المشكلة أنّ هؤلاء يتصرّفون بهذه الطريقة، وهم يعملون في مهرجانات إمّا حديثة جداً، وإمّا منهارة جداً، وإمّا متخبّطة بأزماتٍ وخلل. يظنّ هؤلاء أنّ المهرجانات التي توظّفهم ترتقي إلى مصاف برلين و"كانّ" وفينيسيا ولوكارنو وتورنتو وأمستردام وكليرمون فيران وكارلوفي فاري، وبعض آخر غيرها، وأنّ المهرجانات السينمائية العربية تؤثّر في مسار السينما ومستقبلها، وتمنح مدعويها شهرةً لا مثيل لها، بينما الواقع يقول إنّ بعض تلك المهرجانات مجرّد واجهة إمّا لتغييب فظاعة ما يحدث في هذا البلد العربي أو ذاك من ارتكاباتٍ تبلغ مرتبة الإجرام أحياناً، في الثقافة والفنون والإعلام والصحافة، كما في الاجتماع والاقتصاد والعيش والعلم والمعرفة والحريات؛ وإمّا للحصول على أموالٍ من جهات رسمية أو خاصة، لتلميع صورة من يدفع، وإشهار اسمه في العالم كمهتمّ بالثقافة والفنون وغيرها، عبر السينما، بينما تنحدر صلته بالسينما إلى حدّ الانقطاع المطلق، غالباً.

الأموال لن تصنع احتراماً وثقة. الأمزجة في مهن كهذه اهتراء وانهيار. صُنع مكانة لمهرجانٍ، في بلده أو محيطه أو العالم، يحتاج إلى حِرفيّة ومهنيّة غير مرتبطتين بالمال والمزاج، فالمال والمزاج يحولان دون إنجاح المهرجان، إنْ يكتفي المهرجان بهما. وظيفة المسؤول الصحافي في مهرجانٍ يُفترض بها أنْ تتحرّر من مزاجيته، خصوصاً إنْ يكن هو نفسه ملحقاً صحافياً ـ إعلامياً لهذا المخرج أو لتلك السينمائية.

 

 

القراءة النقدية فعلٌ ثقافي وأخلاقي ومهني، لن يخضع لابتزازٍ إنْ يكن الناقد متصالحاً مع ذاته في مهنته وثقافته وحياته. نقّاد عديدون يُدركون هذا، فيُلبّون دعوات مجانية من دون انتقاصٍ من ذواتهم ومهنتهم ووعيهم وثقافتهم، فتبتعد كتابات لهم عن المهرجان كصنعةٍ، وتنصرف إلى أفلامٍ وحواراتٍ، وهذا ضروري ومهمّ. بعضٌ آخر يُفضِّل الامتناع عن هذا كلّه، فالمهرجانات الدولية كثيرة، وحضور دوراتها مُتاح، وبعضها يُقدِّم دعوات شبه مجانية من دون مُقابل، باستثناء إرسال عمل المدعو إلى إدارة المهرجان، وهذا الاستثناء غير مهتمّ بنوع الدعوة (مجانية أو غير مجانية)، لأنّ إرسال عمل الناقد أو الصحافي السينمائي إلى المهرجان جزءٌ من مهنة الناقد والصحافي والمهرجان معاً.

عربياً، هناك ما هو أسوأ أيضاً: العلاقات بين الدول على مستوى القيادات الحاكمة. مهرجان سينمائي يُقام في مدينة عربية يرفض دعوة ناقدٍ أو صحافيّ سينمائي يعمل في مؤسّسة تابعة لدولةٍ عربية "مُعادية" لدولة المهرجان. تخيّلوا، ولو قليلاً، أنّ مهرجان "كانّ" يمنع حضور نقّاد وصحافيين وسينمائيين من ألمانيا، إنْ تنشب بينهما خلافات في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية. "طرد" لارس فون ترير من "كانّ" ذات مرّة متأتٍ من "مزحةٍ إيجابية" له عن هتلر، لا أكثر. لكنّ السينمائي الدنماركي عائدٌ لاحقاً إلى "كانّ" مُعزّزاً مُكرّماً. عربياً، تخشى إدارات مهرجانات عدّة من دعوة عاملين وعاملات في مؤسّسات دولة عربية يرونها "على عداء" مع دولة تنتمي الإدارات إليها. هذا يُناقض أصول المهنة كلّياً. هذا يعكس واقعاً عربياً، لن تكون السينما وحدها ساحة لصراعاته.

هذا رأيٌ لا علاقة له بدعوة مجانية إلى مهرجانٍ أو إلى آخر، أو بغياب دعوة كهذه. حضور مهرجانات سينمائية عربية ثقلٌ لناقدٍ يُدرك أنّ كتابة كهذه غير مؤثّرة، وغير مُثيرة لانتباه أو نقاش. ثقلٌ ناتجٌ من انهياراتٍ شتّى، وخللٍ فظيع، وارتباكات مزعجة، واشتغالاتٍ غير حرفيّة وغير مهنيّة في مهرجانات سينمائية عربية عدّة. المهرجانات السينمائية العربية المهمّة قليلةٌ، رغم خضوعها لسلطاتٍ، تمنح مالاً وتفرض رقابة. هذا القليل مطلوب، والرغبة في تطويره حقيقية وصادقة وشفّافة.

بعضٌ من التواضع مُفيدٌ للغاية. كثيرٌ من الحرفيّة والمهنيّة جوهر النجاح المطلوب. لكنْ، أهناك من يقرأ ويهتمّ؟

المساهمون