عن "برليناله" ورمزية المكان: ذاكرة تاريخ وحيوية سينما

24 فبراير 2023
"20 ألف نوع من النحل" للإسبانية إسْتِباليث أورِّسولا سولاغُرِن (الموقع الإلكتروني للـ"برلي
+ الخط -

 

قبل أزمة كورونا، الضاربة في العالم بدءاً من مطلع عام 2020، يُردّد زملاء المهنة كلاماً يُقارن بين مهرجانين اثنين، مُصنَّفين "فئة أولى": الـ"برليناله" (فبراير/شباط) و"كانّ" (مايو/أيار). مقارنة غير مرتبطةٍ بالتنظيم واختيار الأفلام ولجان التحكيم، وغير معنيّة بجودة المُقدَّم من خدمات وأفلام ونشاطات مرافقة، فقط، بل بـ"مناخ" كلّ واحد منهما، والجغرافيا المحيطة بالمقرّ الأساسي، أي قاعة عروض أفلام المسابقة للنقّاد والصحافيين/الصحافيات السينمائيين قبل الظهر، والاحتفالات الرسمية مساء ("قصر برليناله"، و"قصر المهرجانات والمؤتمرات" في "كانّ").

 

قصر وجدار وصُور

مقرّ الـ"برليناله" رمزٌ يتجاوز السينما. ساحة مارلين ديتريش مُقامة في مساحةٍ، تُمثِّل الخطّ الفاصل بين الجانبين الشرقي والغربي لبرلين، زمن الحرب الباردة. اختيار المكان متأتٍ من رغبةٍ في تأكيد الوحدة الألمانية (3 أكتوبر/تشرين الأول 1990)، بعد أعوام الجدار (1961 ـ 1989). الأبنية المحيطة بالقصر تمتلك ميزات العمارة الحديثة. في "ساحة بوتسدام"، القريبة من القصر، بقايا ثابتة من الجدار. في القصر، صالة كبيرة. خطوات قليلة تفصله عن مجمّع "سينماكس"، الذي يُجري إصلاحات جذرية فيه، تُنتج صالات إضافية، لكنّها تُقلِّص عدد المقاعد في كلّ صالة، تُجهَّز (الصالة) بمقاعد "مريحة للغاية"، لكنّها غير ملائمة أبداً لأفلام المهرجانات.

مجمّع تجاري ضخم، ومحلّات ومطاعم ومقاهٍ. وراء مبنى الـ"سينماتيك"، القريب من القصر، مجمّع آخر، لكنّه مُغلق (باستثناء مطعمٍ واحد) لتجديدٍ فيه، يُقال إنّه (التجديد) سيُنتج "ناطحة سحاب" تكون، كالعادة، مُجمّعاً تجارياً. "فندق حياة"، الذي يستضيف نجوم السينما ونجماتها وعاملين/عاملات فيها، يُطلّ على القصر. هذا مُفيدٌ لمن يبغي المشاهدة والمتابعة، وانتظار الضيوف لالتقاط صُوَر، أو لتسجيل كلمة، في طقسٍ، يُفترض به أنْ يكون شتوياً، مع بردٍ قارس، وثلج يُغطّي مساحات عدّة. في هذه الدورة، يكاد يكون الطقس خريفياً، مع أمطار قليلة، وبردٍ محمول. الطقس "الأصلي"، المتغيّر كثيراً في أعوامٍ قليلة ماضية، "يستفيد" منه سابقاً نقّاد وصحافيون/صحافيات سينمائيون عرب، لإعلان رفضهم تلبية الدعوة (بحجّة الصقيع)، ربما لتغطية عدم الحصول على دعوة أصلاً.

هذا يختلف عن "البيئة الحاضنة" لمهرجان "كانّ". المدينة الساحلية الفرنسية، في أشهرٍ عدّة، عادية للغاية. الشاطئ حكرٌ على أثرياء، وفي مرتفعاتها أفراد غير أثرياء، بعضهم مهاجرون/لاجئون ذوو أصول عربية وأفريقية. الفنادق الفخمة تمتدّ على الشاطئ نفسه، مع مطاعم ومقاهٍ وخمّارات، كما في شوارع فرعية وموازية. "قصر المهرجانات والمؤترات" في "كانّ" أضخم من ذاك الخاص بالـ"برليناله"، إذْ يضمّ صالات عدّة، أكبرها "أوديتوريوم لوي لوميير" (الاحتفالات الرسمية/السجادة الحمراء، عروض الصحافة)، الذي يحتوي على 2309 مقاعد، إلى صالات أصغر، كـ"بازان" و"بونويل" و"دوبوسي". كما أنّه يحتضن السوق السينمائية، وقاعات المؤتمرات الصحافية واللقاءات، وغرفة الصحافة.

الصالة السينمائية في "قصر برليناله" (أو "قصر برلين") تضمّ 1754 مقعداً، وفيها مقرّ للصحافة. يُقال إنّ هناك مخطّطاً لتأهيل القصر، وتوسيعه. يُقال أيضاً إنّ هناك تفكيراً في نقل مقرّ المهرجان السينمائي إلى مكانٍ آخر. لا شيء مؤكّد. "البيئة الحاضنة" لـ"كانّ" أكثر حيوية وغلياناً وحشوداً، والأخيرة (الحشود) لا علاقة لها فقط بالقادمين/القادمات إلى المدينة/المهرجان للمشاهدة والمشاركة. الطقس في مايو/أيار، في مدينة لها شاطئ يمتدّ على البحر الأبيض المتوسّط، يختلف كلّياً عن ذاك الذي يُخيّم على برلين، في أيام مهرجانها. في "كانّ"، كلّ شيءٍ يحدث في شارع أساسيّ، بينما نشاطات عدّة تُقام في أمكنةٍ، بعضها بعيدٌ عن مقرّ الـ"برليناله".

 

صالات ومسافات

السوق السينمائية في الـ"برليناله" تُقام في مبنى آخر، يبتعد عن "قصر برلين" نحو 10 دقائق سيراً على الأقدام. إلى جانبه، معرضٌ دائمٌ بعنوان "بين البروباغاندا والرعب 1933 ـ 1945"، ملاصقٌ تماماً لحائط ممتدّ على مسافة كيلومتر واحد، باقٍ في مكانه منذ تحطيم "جدار العار" البرليني (9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989). صورٌ فوتوغرافية، ونصوص باللغتين الألمانية والإنكليزية لتفسير او توضيح أو معلومة، تعكس حقبةَ القهر والجريمة والعمالة، زمن النازية. بعضُ بقايا الجدار مداخل سابقة إلى غرفٍ وأبنية نازية، شاهدة على أفعالٍ وجرائم واشتغالاتٍ. هذا غير عابرٍ. التفكير الأساسيّ في اختيار أمكنة الـ"برليناله" منبثقٌ، أساساً، من أولوية التذكير الدائم بفصلٍ من التاريخ البائس والقاهِر لألمانيا، بهدف عدم تكرار الجريمة (أو هذا ما توحي به التفاصيل تلك، على الأقلّ). القول بنيّة إدارة الـ"برليناله" نقل مقرّها إلى مكان آخر، إنْ يكن (القول) صحيحاً، يعني قتلاً للذاكرة، وإلغاءً لرمزية المكان، وارتباط المهرجان به. لكنْ، ربما هناك حاجة فعلية إلى التغيير.

 

 

الصالات التي تعرض أفلاماً مشاركة في أقسام/برامج أخرى، غير المسابقة الرسمية لـ"كانّ"، غير بعيدة عن "قصر المهرجانات والمؤتمرات". في برلين، هناك صالات يحتاج المهتمّ/المهتمّة إلى وقتٍ ومواصلات لبلوغها. هذا لا علاقة له بالقيم المختلفة، عمارةً وتراثاً ورمزاً، للصالات، ولما تعرضه أيضاً، علماً أنّ بعض الصالات حديثٌ. المقاهي المُقابلة لقصر "كانّ" تُتيح لكثيرين/كثيرات (بعضهم نقّاد وصحافيون/صحافيات) حيّزاً لـ"تلصّص" مشروع على أناسٍ، يأتون إلى المدينة في أيام مهرجانها، لأسبابٍ، بعضها سينمائي، وبعضها الآخر غايات مختلفة. في برلين، يصعب العثور على مشهدٍ كهذا: مقاهٍ تُقابل القصر (وجود بعضها غير متشابه مع ذاك المنفلش على الـ"كوت دازور")، وتمنح روّادها فرصة التمتّع بذاك الـ"تلصّص" المشروع.

هذا كلّه مرتبطٌ بـ"المناخ" العام. اختيار مكانٍ برليني، يحمل اسم مارلين ديتريش، غير متشابهٍ مع ذاك الحاصل في "كانّ". التاريخ والذاكرة في الـ"برليناله" غير موجودين في "كانّ". برلين مدينةٌ مفتوحة على السياحة والثقافة والسهر والحياة والفنون والاقتصاد والعيش، بينما تكتفي "كانّ" بيخوتٍ باهظة الثمن في مرفئها، وبمهرجانها السينمائي الأشهر، المتساوي إلى حدّ كبير مع شهرة مهرجانها التلفزيوني. التاريخ والذاكرة في "كانّ" محصوران بتاريخ مهرجان وذاكرته، وحياة أثرياء وسِيَرهم. برلين مختلفة تماماً. بقايا الجدار، وخطّ ممتدّ في أنحاء المدينة، يقولان للجميع إنّ "جدار العار"، غير الباقي مادياً، حاضرٌ بثقل تاريخه وذاكرته.

 

تغييرات

هذا لا علاقة له بأفلامٍ ولقاءات ومسائل سينمائية بحتة. "مهرجان برلين السينمائي" مرآة تعكس جديداً، وتجديداً أيضاً، غالباً. تفشّي كورونا، لحظة انعقاد دورته الـ70 (20 فبراير/شباط ـ 1 مارس/آذار 2020)، مُربكٌ له، وللمهرجانات الأخرى. دورة 2023 تُتيح فرصة مشاهدة جديد وتجديدي، لكنّها تفتقد حيوية السابق على كورونا. أفلامٌ عدّة مُثيرة للاهتمام والتفكير والنقاش، لكنّ "جواهر" السينما و"تُحفها" غير واضحةٍ، أو غير حاضرة.

هذا يستدعي نقاشاً، يُفترض به ألاّ يُحصَر في أزمات كورونا والاقتصاد والحرب الروسية على أوكرنيا، فقط. كلامٌ، يتردّد في منتصف الدورة الـ73 للـ"برليناله"، يُشير إلى أنّ انتقاداً يوجَّه إلى "كبار" المهرجان، يتعلّق بالثنائي مارييت ريسنّبيك وكارلو شاتريان، مديرا الـ"برليناله" منذ عام الوباء: "هناك فشلٌ حاصلٌ، لا علاقة للوباء به". أيكون هذا صحيحاً؟ يصعب التأكّد، فالثرثرة ميزة مهرجانات سينمائية.

لكنّ المهرجان أفلامٌ أيضاً، بل أوّلاً. مسابقة رسمية، وبرامج/مسابقات، واستعادات وتكريمات. كثرة الأفلام المختارة تحول دون تمكّنٍ من الاختيار. نقّاد وصحافيون/صحافيات سينمائيون يُفضّلون المسابقة الرسمية، وبعضهم يُشاهد أفلاماً في تلك البرامج/المسابقات، لما فيها، غالباً، من نتاجات ربما تكون جديرة بالمشاهدة والنقاش والمتابعة.

 

 

3 أفلام مُشاركة في المسابقة الرسمية للـ"برليناله 73" تمتلك مشتركاتٍ مرتبطة بالتصوير، والاشتغال الدرامي على العلاقات بين الأجيال، خاصة عند النساء، والإيقاع الهادئ، الحامل كمّاً هائلاً من الارتباكات والانزلاقات الخطرة في جحيم الكآبة والقهر، والأسئلة المعلّقة، والإجابات المؤجّلة دائماً. مشتركات تتمثّل في انهيار المرأة، وبحثها عن هوية جنسية وإبداع فني، وسعيها إلى تطهّر أو خلاصٍ (التناقض كبير بينهما). حضور المياه طاغٍ فيها: سباحة في بحرٍ أو مسبحٍ، أمطار، اغتسال.

المرأة أساسية، إنْ تكن مراهِقة أو شابّة أو أربعينية، أو أقرب إلى البدايات الأولى للشيخوخة. الرجل حاضرٌ في غيابه عن المشهد، وظهوره فيه نادرٌ، لكنّ تأثيراته (معظمها سلبيّ بالنسبة إلى بعض أولئك النساء) تعكس مدى سطوته. المرأة تعاني خيبة وانكساراً وقسوة ضغطٍ، تدفعها إلى مواجهة تحدّياتٍ ومخاوف؛ والرجل، بحضوره الأقلّ من حضورها (مراهقٌ أو شابٌ، غالباً)، يتوه في أزقّة ضيّقة في روحٍ قلقة، ويصطدم بلحظاتٍ تدفعه إلى خيارات، لعلّها (أو لعلّ بعضها على الأقلّ) غير متوقّعة أو غير مقصودة.

"20 ألف نوع من النحل"، للإسبانية إسْتِباليث أورِّسولا سولاغُرِن، أقلّها قدرة على سرد الحكاية، في أقلّ وقتٍ ممكن. هذا يعني أنّ في الفيلم ثرثرة، يُفترض شطبها من المعادلة السينمائية بين الشكل والمضمون. "موسيقى"، للألمانية أنْغِيلا شانْإليغ، يُدخل ما يُشبه الأسطورة بلحظةٍ راهنة، ليروي سِير أفرادٍ مُصابين بلعنة، غير ناجين منها، أو ربما تكون النجاة منها وهماً. "بالكاد يعيش" (ترجمة حرفية للعنوان البرتغالي الأصلي Mal Viver، أو "حياة سيئة"، كترجمةٍ للعنوان الإنكليزي الدولي Bad Living)، لجوان كانيزو، أجملها، سينمائياً ودرامياً وجمالياً.

أفلامٌ أخرى تغوص في أهوال النفس البشرية، بلغةٍ بصرية جاذبة وممتعة. "ليمبو"، للأسترالي أيفان سنّ، أقساها. حيّز مكانيّ يجمع بين كهوفٍ ومتاهات، وأفراد غارقون في الغبار واللعنات والماضي الثقيل. "حريق"، للألماني كريستيان بَتْزولد، قاس وعنيف، من دون مباشرة. في "ليمبو"، محقّق، يتعاطى الهيرويين، يُكلَّف بإعادة فتح ملف شابة مختفية منذ 20 عاماً. التحقيق يكشف عوالم غارقة في البؤس والغضب والعنف والأكاذيب والنبذ والفقدان والتفكّك. في "حريق"، كاتبٌ يعجز عن تأليف رواية ثانية، فيغوص في محيطٍ له مليءٍ بما يدفعه إلى ولادة جديدة.

المساهمون