عن الفصل بين الرجل والفنان: موقفٌ أخلاقي غير لاغٍ أهمية العمل

31 يناير 2024
جيرار دوبارديو: أيكون الفنان أهمّ من الرجل دائماً؟ (تييري روج/فرانس برس)
+ الخط -

 

يكتب الفرنسي غايل غولُن، رئيس تحرير "بروميير" (مجلة سينمائية شهرية فرنسية)، في افتتاحية العدد الأخير (فبراير/ شباط 2024)، ما يُثير نقاشاً إزاء مسائل عدّة. فالممثل الفرنسي جيرار دوبارديو يحتلّ، منذ أسابيع، واجهة المشهد العام في فرنسا، بعد إدلاء عاملاتٍ في صناعة السينما بشهاداتٍ تُدينه، بسبب تحرّشاتٍ جنسية واغتصابات متعرّضات لها في أعوامٍ سابقة، فيُدافع عنه البعض، ويهاجمه آخرون وأخريات. لكنّ الأبرز كامنٌ في سؤالٍ، يتكرّر دائماً: أهناك إمكانية لفصل الفنان عن الرجل؟

يبدو غولُن غير راغبٍ في "التورّط" في مسألة كهذه، إذْ يكتب أنّ لحظةً يمرّ بها، تدفعه إلى التفكير بكتابة افتتاحية تتناول قضية دوبارديو: "التحدّث مجدّداً عن (حركة) MeToo، التي تهزّ الصناعة الفرنسية، والشكوى من عيوب هذه الصناعة، وفصل الرجل عن الفنان، والنذل عن البهلوان". لكنّه يُقرّ بأنّ مفردة أميركية تبدو كأنّها منقذته من هذه الورطة: "هروب". هذا يدفعه إلى تقديم جديد السينما في العالم، الذي ينتظره كثيرون وكثيرات، فتُخصَّص صفحات عدّة بهذا الجديد، ويغيب دوبارديو وقضيته عن مجلةٍ، يُفضَّل عدم ابتعادها عن مسائل كهذه، وإنْ بشكل يُفترض به أنْ يختلف تماماً عن صحافة صفراء، أو عن تلك المعنيّة بمتابعة يومية لقضية مرتبطة بصناعةٍ تهتمّ بها هذه المجلة.

الأكثر إثارة للاهتمام كامنٌ في سؤال تقليدي، يتكرّر غالباً، ويُنتج أسئلة عدّة: أيُمكن فصل الفنان عن الرجل؟ أيجوز هذا، أخلاقياً أولاً، ثم فنياً واجتماعياً؟ أيصلح "نسيان" جماليات اشتغال الفنان عندما يظهر الرجل مخادعاً أو فاسداً أو مرتكباً إثماً تُحرّمه أخلاقيات عدّة؟ ألن يكون القضاء أداة وحيدة لـ"محاكمة" مُرتكب إثم أو جُرم، بدلاً من "محاكمات" تحصل في المجتمع وغالبية الصحافة والإعلام، خاصة الصحافة الصفراء، والإعلام غير المسؤول؟

"هروب" غايل غولُن غير مُبرَّر أخلاقياً، لكنه مفهوم مهنياً، علماً أنّ هناك نقّاداً وصحافيين وصحافيات سينمائيين غير راغبين في كتاباتٍ خارج النقد والصحافة السينمائيِّين. هذا حقّ لهم ولهنّ. لكنّ الـ"محاكمات" خارج القضاء تجري في صحافة وإعلامٍ أيضاً، فيكون العاملون والعاملات فيهما "مسؤولين"، بشكلٍ أو بآخر، إزاء "واجب" مهنيّ أولاً، يدفعهم إلى اتّخاذ موقفٍ، أخلاقيّ أساساً. الموقف، أياً يكن، يُفترض به ألّا يحجب الفعل الفني للرجل "المتّهم" بارتكابه إثماً وجُرماً. إصدار حكمٍ قضائي بحقّه، إنْ يكن تأكيداً للإثم والجُرم أو نفياً لهما، يجب ألا يحول دون متابعة إنجازات الفنان والاهتمام بها، وتحريرها من إثم الرجل وجُرمه، في حالة الإدانة.

 

 

هذا كلّه مُكرَّر. "هروب" مهنيّ من قضية عامة، لفنان سينمائي علاقة بها، غير مفهوم كلّياً، إلا في حالة واحدة: مسألة كهذه تستدعي تكراراً لكلامٍ وتعليقات ونقاشاتٍ سابقة، إذْ لا جديد يُذكر بخصوصها، باستثناء أسماء المتورّطين والمتورّطات فيها. غولُن يكتب أنّ "وظيفة السينما، في العمق، أنْ تسمح لنا بالهروب"، مُضيفاً التالي: "أنْ نغادر هذا الكوكب لساعاتٍ، كي نكتشف آفاقاً جديدة". هذا قولٌ يُناقَش: هل وظيفة السينما مكتفية بإتاحة إمكانية الهروب من واقع، فقط؟ ألن تكون قضية دوبارديو وأمثاله واقعاً يجب عدم الهروب منه؟

أعرف أنّ المقصود بـ"مغادرة الكوكب" ربما تكون رغبةً في استراحةٍ من خرابه وارتباكاته وعَفَنه وعُنْفه. أعرف أنّ المقصود بـ"اكتشاف آفاق جديدة" ما تصنعه السينما، التي لن تتحرّر من أهوال هذا الكوكب، بالتفاصيل كلّها لتلك الأهوال. لكنْ، هل يجب التنصّل من واجبٍ أخلاقي، تُلزمه المهنة أيضاً، إزاء مسألة كتلك التي يواجهها جيرار دوبارديو حالياً، كما يواجهها الأميركي وودي آلن، والبولندي الفرنسي رومان بولانسكي، وغيرهما، سابقاً وراهناً؟

مع أنّ موضوعاً كهذا يتكرّر، كما يتكرّر التعليق عليه، يصعب التنصّل من طرح ـ إعادة طرح المسألة مع كلّ فضيحة تظهر. غير أنّ عدم التنصّل يُفترض به ألا يورِّط مهتمّين ومهتمّات بـ"محاكمات الشارع". فرئيس تحرير "بروميير" يختم افتتاحيته بتساؤل، "يُبرِّر" رغبته في الـ"هروب"، إذْ يكتب التالي: "عندما نتابع الأخبار، والواقع الخانق، المؤلم حتّى، هل من العبث حقّاً أنْ نرغب، لساعةٍ أو ساعتين، في التعبير عن أنفسنا بشأن حياتنا اليومية؟".

المساهمون