في برلين، لا تكاد تخلو في الآونة الأخيرة نافذةُ دكان للكتب، أو مجموعة منشورات ورقية اختارتها دارٌ للثقافة أو صالةٌ للفنون، لتُعرض في واحدٍ من أركانها، نسخة من كتاب "صوفيّة الصوت والموسيقى" (The Mysticism of Sound and Music) للموسيقار الفيلسوف حضرة عنايت خان (1882-1927) الذي تصادف اليوم الأحد، الخامس من فبراير/ شباط، ذكرى رحيله.
وعنايت خان هنديّ مسلم من مدينة بورودا بولاية غوجارات الشرقية، مُغنِّ وعازف على عود الڤينا، الشبيه بالسيتار. علاوةً على ذلك، شاعرٌ متفلسفٌ متصوفٌ، تتلمذ على يد السيد أبو هاشم مدني في حيدر أباد. يرجع إليه الفضل في إطلاع الغرب الأوروبي والأميركي بداية القرن العشرين على التصوف الشرقي المُمارس بواسطة الموسيقى والغناء، الذي يُعرف اليوم بموسيقى الراغا. أسّس في لندن، ثم في مدينة نيويورك الأميركية، مدرسةً عُرفت بـ"الطريقة الصوفية"، ظلّ يُعلّم فيها حتى رحيله.
أما الكتاب، فهو مختارات من تعاليم كان قد لقّنها لأتباعه مشافهةً، خلال المجالس والدروس والمحاضرات التي دُعي إليها من قبل كبريات الجامعات الأوروبية في عصره. تستهل الفصول عناوين، بعضها ميتافيزيقيّ أخّاذ، كعنوان الفصل الثاني "الصوت الغيبي" والثالث "موسيقى الأفلاك"، والبعض الآخر تطبيقي، ذو وجهة شفائية، مثل "الأثر النفسي للموسيقى" و"القوة العلاجية للموسيقى".
جال الموسيقار الشاعر أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وراجت أفكاره وموسيقاه، في وقت كان فيه الغرب واقفاً على عتبة تحوّل اقتصادي واجتماعي وفكري ستعبر به إلى قرن جديد. الثورة الصناعية في أوجها، الكشوفات العلمية تنبثق كحبوب البوشار، والخروقات التقنية تتوالى على صُعد المواصلات والاتصالات، فتهزّ أركان الواقع كما عهده الناس، لتضعهم أمام واقع مغاير، صار للزمان وللمكان ولوجود الإنسان فيهما معانٍ مستجدّة ومفاهيم مستحدثة.
حفّزت التحوّلات العميقة مفكّري المرحلة. منهم الباحث الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، الذي رصد ما سمّاه سيرورة "العقلنة" التي ما انفكت الثقافة الغربية تخضع لها، بفعل تغوُّر النواظم البيروقراطية في المجتمعات الرأسمالية الحديثة. انتقد فيبر آثارها على الفنون، ومنها الموسيقى، التي تجلّت من خلال فرض "توحيدٍ للمقاييس" (Standardization) على الممارسة الموسيقية، بدايةً بمأسسة الغناء ثم العزف ضمن الكنيسة الغربية، ثم إحداث نظام رموز للكتابة الموسيقية وقواعد صارمة تؤطر العمل به، وتحدّ من حرية المؤدي، علاوة على تعديل النغمات لتنتظم ضمن ثنائية ثابتة تعتمد سُلّمين، بدلاً من السيولة المقامية التي ميّزت أوروبا القروسطية وقبلها اليونان القديمة، وظلت تُميّز الموسيقى الشرقية إلى اليوم.
ترافق الإدراك المتنامي لمآلات الحداثة الغربية وانعكاساتها على الفرد والمجتمع، بوعي متزايد إزاء "الآخر" المُتمثّل بالمجال الاستعماري الممتد في شرق الأرض وجنوبها. أخذ يُنظَر إلى الشرق عبر منظار "الأخرنة"، تارة من زاوية الاستعلاء، وتارة أخرى من زاوية الاستلهام.
بدا الآخر الشرقي بثقافته الروحية، النقطة المقابلة (Counterpoint) للغربي بثقافته العقلانية. غدا ممثِّلاً للبعد الغيبي المفقود، تلك "اللوحة الحيّة من غرائبية" كما وصفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003)؛ صار الغرب يرنو إلى الشرق، ليس فقط بوصفه رقعةً للهيمنة ومصدراً للموارد، بل وصفةً علاجية منشودة لأعراض العوز الروحي التي أحسّ بها وهو على مشارف حقبة مقبلة.
جانبٌ آخر من جوانب التقابل (الكاونتربوينت) ما بين الغرب العقلاني والشرق الروحاني، جسّدته شخصية خان، وتصوّرته المروية الغربية القائمة على ثنائية "النحن" و"الآخر" هو التباين ما بين الوسائط المعتمَدة في نقل المعرفة بين كل من الغرب والشرق. ذلك ما عبّر عنه الباحث في الصوتيات من جامعة ميغيل الكندية جوناثان ستيرن، من خلال إحداثه أخيراً مفهومَ "الابتهال السمع-بصري" (Audiovisual Litany)؛ فمنذ أفلاطون، ظلّ الفكر الغربي العقلاني يتبنى النص المكتوب المقروء والمتّكل على حاسة البصر، ناقلاً مركزياً وحصرياً للمعرفة، بينما ظلّت الثقافات "الأخرى" تعتمد وسائط أخرى، كالموسيقى والغناء والرقص.
ينقل الكتاب عن عنايت خان حديثه عن أهمية الموسيقى في الثقافة الشرقية، إذ يقول: "في الڤيدا، الكتاب المقدس لدى الهندوس، نقرأ: نادا براهما، أي إله الصوت بوصفه مُحدِثَ الخلق. وفي الحكمة الهندية القديمة، نقرأ أنه في البدء كان الصوت، ثم الحكمة". كذلك، يستشهد بالشاعر الفارسي حافظ شيرازي الذي تحدث في قصيدة له عن خلق الإنسان، ناظماً أنه حين أوعز الرب إلى الروح بولوج الجسد المجبول من طين، أبَت، إذ خافت أن يُمسي الجسد لها سجناً، فأوعز إلى الملائكة بأن تُغنّي. وعلى وقع الأغاني، أذعنت الروح ثم دخلت الجسد.
بتأويله التقليد الديني الشرقي، يخلص خان إلى نتيجة مفادها أن تجلّي الحقيقة سمعيٌّ أولاً، ثم بصري ثانياً. وسائلُ هذا التجلّي هي الآلات الموسيقية والحنجرة البشرية، التي عادة ما تُستخدم في إصدار الصوت الفيزيائي. لكن إن تسنّى للموسيقي، أو المغنّي أن يولّف روحه، وفق اهتزازات الكون، فإن الصوت الفيزيائي سيغدو صوت "الكلّي". صوتٌ، يُطلق عليه خان "صوت الأفلاك"، ويُعرَف بـ"آناهاد نادا" عند المتصوّفين الهندوس، والمتصوفون المسلمون يسمّونه "صوت السرمد".
أما السبب من وراء رواج كتاب عنايت خان في برلين، العاصمة الأوروبية التي تطرح نفسها حاضرةً للثقافة المعاصرة، فيبدو السبب ذاته الذي أدى إلى بروز اسمه ورواج تعاليمه في أوروبا وأميركا قبل مئة عام. إذ يشهد الغرب اليوم، ومعه العالم كلّه هذه المرة، وهو على أعتاب القرن الحادي والعشرين، فترة تحوّل عميق اقتصادي واجتماعي وفكري، تفرضها الثورة التكنولوجية الرابعة في مجالات المعلومات والاتصالات والذكاء الصناعي، من شأنها أن تُرسي واقعاً جديداً، يُغيّر من جديد مفهومي الزمان والمكان ووجود الإنسان فيهما.
وفي كل مرة يُحسّ الغرب الرأسمالي فيها بعوارض العوز الروحي التي عادة ما تصاحب كل تحوّل تاريخي يمرّ به، يلجأ إلى "الآخر"، أو بالأحرى يبحث عن صورة مقابلة له في مرآة الآخر. الآخر الشرقي، الروحاني، الغيبي والغرائبي مقابل الغرب الواقعي، العَلماني والعقلاني. وفي ذلك لجوء إلى إزالة العوارض من دون الأخذ بعلاج العلّة. أما العلّة، فإنما تكمن في ذلك الفهم القاصر ذاته، القائم على ثنائية الآخر والنحن.