اتخذ المغني المصري عمرو دياب لألبومه الأخير اسم "مكانك"، كما لو كان يفصح، من دون قصد، عما وصلت إليه مسيرته. وهو الموضع الذي رسخته هضبة تعشعش في مخيلة جمهوره، إذ لم يبارح عمرو دياب مكانه منذ سنوات. وميلاد "مكانك" بمثابة استهلاك مستمر لموت مُعلن، غدا شاهداً على مقبرة لغناء حقبة وثلاثة أجيال.
ولعل التساؤل دائماً: ما الجديد الذي يقدمه عمرو دياب؟ مثيراً جدلاً بين محبيه وناقديه. فهؤلاء ظلوا يقولون إنه لا جديد سوى اللوك وستايل الشعر، بينما استمر محبوه يصفونه بـ"هرمون السعادة". بينما في ظهوره الأخير بوجه منحوت، يرسم عملية إنعاش فاشلة لأفول مُحقق.
حاول عمرو دياب في ألبومه الأخير أن يضفي على بعض أغانيه جوانب لم يتطرق إليها مُسبقاً. ولم يكن أكثر من تفتيش في مذكرات الماضي والتعديل عليها. إذ يستحضر في ألبومه بعض محطات نجاحه، لكن بوهج أقل.
في أغنية "وحشتينا"، من ألحان مدين على مقام الحجاز، يمثل الحنين مرحلة تحول في مسيرة عمرو دياب. وعلى وجه التحديد، عند بداية تعامله مع موسيقى الفلامنكو الإسبانية ممثلةً بالجيبسي، أو فرقة "كينغز جيبسي"، مثل أغنية "ويلوموني" وبدرجة أكبر "نور العين". وهذه الأخيرة تمثل بداية عصره الذهبي، وهي أيضاً على مقام الحجاز.
لكن سنرى ملمحين انعكس فيهما تطرق باهت إلى فترة زاهية في مسيرته. فعلى خلاف الاستعارة البراقة لأسلوب الفلامنكو في "نور العين" وبدرجة أقل "ويلوموني"، افتقرت الأغنية الجديدة إلى خصائص المزج بين العناصر الشرقية والإسبانية في سياق واسع يشمل حوض الأبيض المتوسط.
هكذا، جاءت "بيوحشنا" كصورة باهتة لتعديل على ألحان الجيبسي التي ازدهرت في التسعينيات. وكانت نسخة مُقاربة لتجارب سابقة قدمها غناء البوب العربي، باستعارة أغاني الجيبسي بحذافيرها، بما في ذلك استخدام العُرب الخاصة بها. وذلك ما كان عمرو حريصاً على أن ينأى بنفسه عنه، في فترته الذهبية.
على أن تلك العودة بالنسبة لعمرو دياب، ربما، كرسها الهاجس بإحداث تعديلات على الشكل الذي ظهر عليه في التسعينيات، بأثر رجعي شديد النمطية تجنبه في السابق، فأصبح بالنسبة له ملاذاً أو هروباً من شبح التكرار الذاتي، إلى نمط التكرار العام. ولا نغفل تعديلاً آخر، عبر توظيف طراز جديد هو تضمين روح الجيبسي التقليدي بإيقاع "نيو فلامنكو"، وهو اشتقاق حديث للفلامنكو التقليدي المستخدم في "نور العين".
لم تقتصر عودة عمرو دياب على التسعينيات في نوع الأساليب الموسيقية، إنما أيضاً يعود إلى موسيقى الثمانينيات. وليست لهذا علاقة بالحضور اللافت للمقسوم، الذي شمل رُبع أغاني الألبوم؛ إذ إنه منذ ألبوم "خالصين"، قلما غاب المقسوم عن إصداراته.
تعيدنا أغنية "يا قمر"، من ألحان عمرو دياب، إلى عصر المقسوم الذهبي في الثمانينيات بأسلوب حميد الشاعري. هذا من ناحية أسلوبه العام، مع إضفاء مؤثرات إلكترونية، تتضمن خلفية من تصفيقات الجمهور، تستبدل الطابع العتيق لمقسوم الثمانينيات، سبق له استخدامها في الآونة الأخيرة. ولا نغفل جانباً مهماً في سياق المقسوم، حضوره مع مقام الكُرد، مع تضمين لحني يستحضر روحاً شعبية جدت مع ظهور المهرجانات. لكنه يتضمن سياقاً ظهر في بعض أعماله منذ "يوم تلات" مروراً بـ "قدام مرايتها" و"سهران".
إنها محاولة لاقتراح أسلوبي يبدأ بمفردة New. لكنه مُجرد إجراء زركشي مُلفق على الطابع العام، من دون أن يشكل اشتقاقاً مقامياً على غرار ما يحدث في الموسيقى الغربية، الحافلة بالاشتقاقات الأسلوبية المتوالدة. هذا بخلاف التصرف المهذار في استخدام أرقام العد من واحد إلى 12.
يبرز المقسوم بلحن "الكلام ليك إنت"، من ألحان محمد قماح على مقام النهاوند. مقسوم مختلف وأقل زركشة، يضفي عليه البزق سمات شرقية متوسطية حاضرة في البوب التركي، لكنها أيضاً ليست بعذوبة "وحكايتك إيه" التي اتسمت بتلك الروح.
نفس الأمر في أغنية "سلامك وصلي"؛ إذ لم يتسم اللحن بأي عذوبة. وذلك رغم التمبو البطيء للمقسوم، والصعود الجوابي في الجزء الثاني من لحن الكوبليه. وكسابقتها، استخدم ملحنها محمد يحيى مقام النهاوند، وكذلك نفس العناصر الموسيقية لأغنية "ليك إنت"، الأكورديون والبزق والغيتار. فيما المقسوم استهلاك لعنصر مهم في تشكيل مسيرة نجم منذ أول صعوده.
لم يقتصر حضور العنصر الثاني الأكثر أهمية في مسيرة عمرو دياب، أي الفلامنكو على روح الجيبسي. لكن هذه المرة بأغنية من مقام النهاوند، هي "ما تتعوضش"، من ألحان عزيز شافعي. لكن هذا النوع جاء بطراز مختلف من الفلامنكو، مع تضمين رتوش للبزق إلى جانب الغيتار. لحن يتقاطع مع نكهة شافعي في تنميط رومانسي على غرار "زي ما إنت" و"جامدة بس".
يطفح هذا التداخل في مسيرة عمرو دياب، بشكل لافت، في هذا الألبوم، فيأخذنا إلى اللاتين بوب الذي بدأ مع "تملي معاك". وإن استبقه في استحضار روح الموسيقى اللاتينية في "قمرين" باستخدام أحد أنواع الرومبا.
هذه المرة يأتي اللاتين بوب في "مكانك" بلحن المُغني نفسه، لكن بصيغة رومانتيكية مُبتذلة، لا تستعيد الصورة البراقة لعصره الذهبي في مطلع الألفية. ولا المشهد اللحني الذي حاول فيه مُحكاة أعمال سابقة على غرار "وحياتي خليكي"، وأيضاً "واهي زكريات". إنما جاءت بأثر رجعي، تُلامس أغانيه المُبكرة مع هاني شنودة، مع ما يضفيه التوزيع الموسيقي من أثر جديد. لكن حضور الأكورديون على الطريقة الفرنسية مجرد استبدال شكلي لأدوار موسيقية، سبق أن استهلكها غناء البوب الذي شاخ عالمياً واحتضر عربياً.
يدين البوب العربي للنجم عمرو دياب في استخدام الموسيقى الإلكترونية، بدءاً بموسيقى الهاوس مروراً بالترانس وغيرها من الأنواع، مع ما يضفيه عليها من مؤثرات مختلفة. هذه المرة يعاود استخدامه طراز الـEDM في أغنية "لوحدنا"، وهو نوع سبق استخدامه العام الفائت في أغنية "يا ليل".
لكن هذه المرة يستبدل الموال الشرقي، الذي أضفى على الطابع الغربي سمات شرقية، باستخدام المقسوم الشرقي في بعض الفقرات، مع حضور ايقاعات مختلفة. إلى جانب مصاحبة عناصر أخرى مثل الروك عبر الغيتار الكهربائي مع زركشة الفانك للغيتار العادي. مع هذا لم يتسم التلقيح الشكلي للكوكتيل الموسيقي بأي لمحة إبهار.
ولعل هذه التشكيلة أصبحت تمثل معظم ألبومات البوب منذ سنوات، إيقاعات شرقية، وإلكترونِك مع عناصر لاتينية وغربية. والإكترو ميوزيك تحضر مجدداً في أغنية "ضبط مودها"، لكن بطابع لاتيني مع استخدام إيقاع الريغيتون. واللافت هو أيضاً استخدام النحاسيات بالأسلوب اللاتيني.
إذن، يستعيد عمرو دياب عدة أساليب سبق له توظيفها في غنائه. فأغنية "معرفش حد بالاسم ده" تعيد لنا أنماط الرومانتيكية المحتدمة بالغضب على غرار "يهمك في إيه" و"راجع". لكن بمطلع لحني فيه لمحات من أغنية سابقة له، هي "هيعيش يفتكرني". وهذا التكرار جاء بصورة أبهت، لولا بعض اللمحات الجديدة في طابع صاحب الألبوم، على وجه التحديد، في لحن المذهب "قولوله ما خرجتش يعني من الجنة".
عموماً، يتسم الطابع العام بأسلوب الروك، مع ما يضفيه البوب من لمحات موسيقية. لكنه أيضاً سياق لحني مكرر في الغناء العالمي، حاول عمرو دياب من خلاله استعادة لمحة فوتها في غنائه.
يمكن اعتبار ألبوم "مكانك" بمثابة البحث عن الزمن المفقود في مسيرة المُغني؛ إذ انشغل في إعادة تدوير بعض ملامحها، من دون أن يُلامس بريقها. وها هو يضفي على إصداراته لمحة شرقية، كما هو الحال مع أغنية "ما بتغيبش"، مع تقديمها بثوب موسيقي شرقي بسيط، جملة موسيقية هي لحن المذهب، يتناوبها الأكورديون الشرقي والوتريات.
لحّن عزيز الشافعي الأغنية على مقام الكرد، مع ملامسة لمقام البيات في العُرب التي تطفح بشكل واضح في غناء "عيونهم حواليه". وللوهلة الأولى، يبدو المطلع جذاباً وعذباً، لكنه سرعان ما يستهلك اللحن نفسه في استماعات محدودة. وقد يُحسب له دفع البوب إلى ثيمات الغناء الشرقي، وإن بثوبه الباهت، فلعل ذلك يدفعه تدريجياً إلى مرحلة أكثر زخماً في الغناء الرائج.
ومن ألحان الشافعي أيضاً، يقدم "المعنويات مرتفعة" على مقام الحجاز، بطابع يختلط فيه الشرقي بالعناصر الغنائية الشعبية. وهي سمات سبق لعمرو دياب أن أدّاها في "رصيف نمرة خمسة" و"عم الطبيب". وتعيدنا إلى أجواء سيد درويش على وجه التحديد في لحنه "البنت دي قامت تعجن بالفجرية"، مع فارق طفيف يتمثل في بدئها بتقاسيم غيتار وفق أسلوب الفلامنكو الأندلسي، يتبعها الغناء على مقام الحجاز بأسلوب شرقي، مع محاكاة طفيفة للموال.
يستعيد عمرو دياب عدة أساليب سبق له توظيفها في غنائه
يأتي لحن "ما فيش خلاص حد له حاجة عندي" مُشرقاً، وإن ذكرنا بمقطع من أغنية نجاة "عيش معايا" من ألحان كمال الطويل، وعلى وجه التحديد مقطع "عايزة أعيش وياك سنين في الحب موصولة وطويلة". وفي لحن آخر على مقام الحجاز وضعه محمد يحيى، يستعيد دياب الحس الشعبي المبتذل في أغنية "واخذين راحتهم".
وببخلاف أن مضمون الكلام في أغاني البوب مستهلكة، يختلف مضمون هذه الأغنية بجرأته، وهي جرأة انحسرت لدى عمرو دياب في اختيار مضامين صادمة لجمهوره. لكنها بلحنها وكلامها تشكل هبوطاً لقاع المعنى، وتعيدنا إلى أغاني العوالم السفلية، خصوصاً في مذهبها. وفي الكوبليه جاء بلحن بوب فيه لمحة من تتر المسلسلات القديمة.
ويبدو أن عمرو دياب، وبعد مسيرة طويلة في القمة، يجد نفسه مُطالباً بالحفاظ على مكانته من "مكانك"، مستسلماً لجمهور جاهز، وآلة دعاية تغرس مُسلمات حول نجمها، وتعمل على إظهار البالي براقاً.