بعد 22 عاماً على إنجازه، أطلِقَت العروض التجارية في الصالات السينمائية المغربية، أخيراً، لـ"علي زاوا" (2000) لنبيل عيّوش، بنسخة مُرمّمة، علماً أنّ الاحتفاء به لم يحصل في ذكرى مرور عقدين اثنين على ذلك، بسبب تفشّي وباء كورونا.
احتفاءٌ كهذا يعكس المكانة المهمّة التي يحظى بها الفيلم في الفيلموغرافيا المغربية، لاعتبارات عدّة، أوّلها صيت الـ"كيلت" الذي اكتسبه، وتأثيره الكبير على الثقافة الشعبية المغربية، خطاباً ومخيالاً. كما أنّه عرف نجاحاً كبيراً، حقّقه في شباك التذاكر المغربي، وفي نيله جوائز مهمّة كثيرة (44 جائزة)، من مهرجانات دولية؛ كما أنّه يمثّل حلقة وصل بين سينما المؤلّف، التي طبعت الإنتاج السينمائي في المملكة المغربية منذ نشأته، وتوجّه أفلامٍ صالحت الجمهور المغربي مع سينماه، مطلع تسعينيات القرن الـ20.
"علي زاوا" أشهر فيلمٍ سينمائي مغربي، والأكثر مُشاهدة في العالم. إدراجه في لائحة "1001 فيلمٍ ينبغي أن تشاهدها قبل أنْ تموت"، المرموقة وواسعة الانتشار، مؤشّر على الصيت الواسع الذي حقّقه، باعتباره امتداداً مؤثّراً - بإنسانيته وطرحه الكوني - لخطّ الأفلام المخصّصة لثيمة أطفال الشوارع، إلى جانب أعمال أخرى، كـ"المنسيون" (1950) للويس بونويل، أو تلك المُنبَرية للعنف والقسوة، اللذين يُعيد إنتاجهما المراهقون في تجمّعاتهم، اقتداءً بسلوك البالغين، كما في "أمير الذباب" (1963) لبيتر بروك، المقتبس عن رواية ويليام غولدينغ.
تجسّد الرؤية الكامنة في "علي زاوا" لقاءً جريئاً وأصيلاً بين متناقضين، لا يُمكن أنْ يجتمعا معاً سوى على الشاشة، ووفق فكرة متجذّرة في السينما: الواقعية، المترسّخة في تصوّره واختياراته الإخراجية، وفسحة الحلم -الخيال الواسع والمنفلت من كلّ القيود- التي تمنح أطفال الشوارع الحقَّ في الحلم، رغم قتامة ظروف الحياة اليومية وقسوتها. ضربة المعلّم، في سيناريو الفيلم، كامنة في أنّه بدل تبنّيه خطاباً مباشراً وبرهانياً عن حقّ أطفال الشوارع في حياة كريمة، يضعنا - منذ المشاهد الأولى المُرافقة لجينيريك البداية - في قلب حلمٍ خرافي، يراود علي زاوا (عبد الحق زهايرا)، على خلفية لوحة مرسومة غامضة المعالم، بأنْ يُصبح بحّاراً يعيش برفقة امرأة فاتنة في جزيرة نائية، تشرق عليها شمسان.
لعلّ اندراجَ المقدّمة في جمالية الصوت الخارجي، ثمّ التدبير المحاكي للريبورتاج الصحافي، اختياران يُضفيان، منذ البداية، مسافة ضرورية على رؤية المخرج، تنأى به عن مانوية استغلال البؤس والمقاربات السطحية، الباحثة عن الإثارة السهلة، قبل أنْ يضع مشهدُ موت البطل، باكراً، المُشاهدَ في وضع تلقٍّ، يمزج الصدمة بالترقّب المتماهي، مع سعي رفاق علي زاوا إلى منحه دفناً كريماً يليق بحلمه.
تتمثّل اختيارات الواقعية في الفضاءات الخلفية للدار البيضاء، الموغلة في العشوائية والهشاشة، في ضاحية سيدي مومن والمدينة القديمة، ثمّ في الكاستينغ المرتكز على أطفال شوارع حقيقيين، غذّوا الفيلم بتجربة عيشهم وصدق أدائهم، المنبعث من حساسية عيشهم ظروفاً تشبه تلك التي يتمثّلها الحكي، بالإضافة إلى لغة حوار خلقت جدلاً كبيراً بجرأتها عند إطلاق الفيلم، لكنّها تكاد تبدو لطيفة بمنظور سقف الجرأة، الذي بلغته الأفلام، وكلّ تمثّلات الثقافة الشعبية، على الإنترنت اليوم. هذا يحيل إلى نسبية الأحكام، ومنحى تطوّر قابلية المجتمع لرؤية تمثّلاتٍ لكلّ أطيافه على الشاشة، بعيداً عن مظاهر الطهرانية والنفاق الاجتماعي.
جُملٌ لا تزال عالقة في المخيال الجماعي، كشعار "الحياة... مقودة"، وأخرى أقلّ شهرة، لكنّها لا تقلّ قوّة، على غرار همسة كويتا (مُنيم كْباب) حول طريقة موت علي زاوا "بحال شي كلب"، أو صرخة الأخير في وجه تسلّط واستغلال زعيم العصابة الدّيب (سعيد تغماوي) "ما راجعينش" (لن نعود إلى حضنك)، التي تبدو امتداداً لجمل رفض أخرى خالدة في تاريخ السينما المغربية، أبرزها "ما سانيش" (لن أوقّع العقد)، التي يصرخ بها محمد بن محمد (محمد الحبشي) في رائعة أحمد البوعناني "السّراب" (1979).
بغضّ النظر عن تأثيره الكبير على الخطّ الغزير للأفلام التخييلية الحضرية، التي اتّخذت من الدار البيضاء ومدنٍ مغربية أخرى مسرحاً لها، شكّل "علي زاوا" - بالنسبة إلى نبيل عيّوش، الذي لم يُخفِ أنّه أقرب أفلامه إلى قلبه - نوعاً من مصفوفة لم تكفّ عن تغذية فيلموغرافيته، ثيمة وجماليات. بالتالي، يُمكن أن نرى في فيلمه "يا خيل الله" (2012) استكمالاً لاستكشاف مآل الأطفال المهمّشين، من حيث انتهى "علي زاوا"، وكيف يصبحون صيداً سهلاً لمتطرّفين، يحوّلونهم إلى قنابل بشرية. كلّ ذلك على خلفية تفجيرات 16 مايو/أيار 2003، التي هزّت الدار البيضاء، مُشكّلة صدمة وجرحاً نرجسياً عميقاً، أصاب نظرية "الاستثناء المغربي"، التي استعان عيّوش بها لالتقاط حيثياته، وفياً دائماً لمقاربته المزدوجة بين قدمٍ راسخة في الواقع، وأخرى تنهل من الخيال، باقتباسٍ من رواية ماحي بينبين (1959)، "نجوم سيدي مومن" (2009).
في فيلمه الأخير، "علّي صوتك" (2021)، الذي أرجع السينما المغربية إلى المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ" (الدورة الـ74، بين 6 و17 يوليو/تموز 2021) بعد عقود من الغياب، استثمر المركز الثقافي "نجوم سيدي مومن" -أحد المراكز الـ5 التي أنشأها مع بينبين نفسه في ضاحية سيدي مومن- فضاء لصدامٍ تخييلي بين القوى المحافظة والرجعية في المجتمع من جهة، ونزعة تحرّر واسترشاد الشباب بفضل موسيقى الـ"راب"، من جهة أخرى.
الارتباط العضوي لسينما نبيل عيّوش بحركة المجتمع المدني إحدى السمات الأساسية لنتاجاته، إذْ يُذكّر دائماً - في حوارات تقديم النسخة الجديدة لـ"علي زاوا" ـ أنّ هذا الأخير لم يكن مُمكناً لولا لقائه بنجاة مجيد، رئيسة "جمعية بيتي"، التي تستقبل وترعى الأطفال الذين لهم وضع صعب، وإعادة إدماجهم. فعيّوش خاض تجربة بحثٍ لعامين ونصف العام، خرج منها بسيناريو يُكثّف قصص أطفال الجمعية، ويعكس خاصة تجربة عيش إنسانية مع بعضهم، بدا بديهياً في إثرها أنْ لا أحد أحقّ بحمل قصّة الفيلم غيرهم. ربما هذا مرجع استمرار علاقة عيّوش مع بعضهم، كهشام موسون (بوبكر في الفيلم)، الذي مثَّل في أعمال أخرى أخرجها للسينما أو أنتجها للتلفزيون، أو عبد الحق أزهيرة، الذي احترف النجارة، ويستعدّ للعمل على ديكور الفيلم المقبل للمخرج. ويمثّل اقتسام مداخيل استغلال النسخة الجديدة مناصفة بين الـ"أبطال" الـ4 وجمعية "بيتي" خطوة مواطنة، تُضاف إلى أخرى، وتدلّ على بعد مهمّ لتجربة عيّوش، قوامه الاجتهاد والمبادرة الخلّاقة المستمرّة.
مياهٌ كثيرة جرت تحت الجسور، منذ خروج الفيلم مطلع القرن الحالي، والنجاح الكبير الذي حقّقه في شباك التذاكر، وصدوره اليوم في نسخة مرمّمة، تعتمد على تقنية عرض عالية الدقّة 4k، لم تحقّق بالتّأكيد الإقبال نفسه، لكنها تتيح لمحبّيه فرصة اكتشافه في ظروف أحسن، وصورة أبهى، وصوت أنقى، فبدى كأنّهم يشاهدونه لأول مرّة. ولعلّ المشهد المترسّخ في الأذهان، من بداية الفيلم - حين يتعرّض الأطفال لهجومٍ من خارج الحقل، من عصابة "الدّيب"، الذي يبدو في قمّة الإرعاب بصوت ارتطام الأحجار المدوّي بالبراميل الحديدية ـ يكفي وحده للوقوف على فارق الوقع الذي تخلّفه النسخة المُرمّمة.
تراجع عدد الصالات السينمائية، الكائنة في الأحياء، لصالح المجمّعات، وانتشار عادة المُشاهدة المنزلية، ربما يمنح آفاقاً جيّدة لاستثمار النسخة الجديدة على المنصّات، بينما يعيد الإقبال -الذي شهدته برمجة عروض الفيلم والمناقشات حوله وحول ظاهرة أطفال الشوارع في المراكز الثقافية، اليوم- إلى واجهة النقاش، حالة السّبات الغريبة التي تعيشها "الخزانة السينمائية" لـ"المركز السينمائي المغربي"، بإدارة المخرجة نرجس النّجار، في وقت يبدو فيه المشهد المغربي بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تثمين تراثه السينمائي، وإطلاق مشاريع كبرى لنشر الثقافة السينيفيلية في المملكة المغربية كلّها.
دليلٌ آخر على أنّ أحد مفاتيح ترويج السينما في الوضع الراهن، خاصة المتطلّبة منها، التي لا تجد بالضرورة مكاناً لها في الدوائر التجارية، يكمن في مقاربات تستهدف جمهوراً نوعياً، عبر عروض توفّر قيمة مضافة، تقديماً ومناقشة، وتمنح المشاهد سُمكاً سينيفيلياً، أكثر إغناءً وجاذبية.