استقال جيفري هينتون من "غوغل". حطّ الخبر في بداية الشهر الحالي، آخذاً حيّزاً كبيراً من النقاشات. لكن الاستقالة لم تأتِ وحيدةً، بل أرفقها الرجل بتصريحات عن ندمه من المسارات التي يأخذها الاختراع الذي كان له فيه مساهمة كبيرة: الذكاء الاصطناعي. جيفري هينتون، أو من يُطلق عليه تسمية "الأب الروحي للذكاء الاصطناعي"، يرى المستقبل مرعباً. جرس الإنذار أتى من المصدر، وكأنّ الواقع يجبرنا على الاستعانة بالخيال: وحش فرانكشتاين.
المجهول، أو غير معروف الشكل، أرض صلبة قادرة على إنتاج الكثير من المخاوف. والذكاء الاصطناعي الذي نعيش معه، وبه، منذ سنوات طويلة، ما يزال مجهولاً أو مثيراً للمخاوف، ربما لسرعته المهولة في التطوّر أو لعدم امتلاكه شكلاً نهائياً، بل هو ذو قدرة هائلة على التمدّد في كل الاتجاهات وإلى جميع الميادين. جاء خبر استقالة هينتون، إضافة جديدة إلى الغموض الذي يلفّ عالم الذكاء الاصطناعي. إضافة مثيرة للمخاوف والتساؤلات عن المسار الذي تأخذه البشرية.
كان من السهل ملاحظة انهماك الإعلام الغربي بخبر الاستقالة أكثر منه في الاعلام العربي. اشتركت جميع وسائل الإعلام في نقل الخبر، وكل منها عالجه على طريقته، خاصة وأن زوايا معالجة موضوع الذكاء الاصطناعي مستقبله وتأثيراته كثيرة ولكل منها قدرته الخاصة على الإبهار. ولكن انشغال الرأي العام الغربي بالمسألة يبدو أكثر جديّةً وكثافة، وهذا لأن الأخير من أوائل وأكثر المتأثرين بالتغيرات الحاصلة. تطوير هذه البرمجيات يحصل حتى الآن خارج العالم العربي، ما يجعل الانشغال به متأخراً أو خارج الأولويات، ولكن هذا لا يعني أن التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي لن تكون أيضاً واسعة المدى.
صحيفة ليبراسيون الفرنسية، على أثر هذه الاستقالة، اختارت مساءلة العملية الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2027. تصريحات هينتون تضمّنت إشارةً واضحة إلى أن الذكاء الاصطناعي يحمل ما يكفي من إمكانات ليصير أداة تضليل، وهذا ما يضع المسارات الديمقراطية في خطر. انشغلت الصحيفة بالتأثير الذي يُمكن أن يحصل على الانتخابات الرئاسية؛ خاصة وأن "مصداقية أي حدث لم تعد مرتبطة بنص أو بصورة، بل بسلطة الشخص الذي ينشر المعلومة وعلى الخيال الذي يملكه الشخص المزوّر". كل شيء صار ممكناً وسهلاً، وإمكانية التحقّق من مصداقيته هي عملية تزداد تعقيداً. هل سبق وسمعنا عن أمر مماثل؟ طبعاً. الانتخابات التي جرت في أكثر من بلد في السنوات الأخيرة، كانت عرضة لحملات تضليل عبر الإنترنت، وعبر أدوات وإمكانات أقلّ تواضعاً. تشير دراسة أجرتها مؤسسة "فريدوم هاوس" المعنية بالحريات في عام 2017، إلى أن الانتخابات في 18 دولة حول العالم تأثرت بنتيجة معلومات مضلّلة، ساهمت بنشرها حكومات (ومراكز توجيه الرأي) عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كمّ المعلومات الخاطئة التي يُمكن للذكاء الاصطناعي إنتاجها من المسائل الأكثر إثارةً للمخاوف
أمّا في الأشهر الأخيرة، ومع التطوّرات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي، فقد انتشرت صور لسياسيين ولشخصيات في أماكن ومواقف غير اعتيادية، وغير محدّدة السياق. صور هبطت من دون مناسبة، وراجت رواجاً سريعاً، قبل أن يُكتشف أمرها: برامج قائمة على الذكاء الاصطناعي، وتحديداً "ميد جورني". برامج تصنع صورها بدقة عالية: من صورة البابا بالمعطف الأبيض، إلى صورة أنجيلا ميركل وباراك أوباما، وصولاً إلى صور توقيف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو في شوارع باريس بين أكوام القمامات. وفي فرنسا تحديداً، وفي عزّ التحركات والإضرابات ضدّ إقرار قانون إصلاحات التقاعد، انتشرت صورة لرجل كبير في السنّ تُغطي الدماء وجهه ويُحيط به الكثير من عناصر الشرطة. انتشرت الصورة بسرعة، واشتدّ الغضب من ممارسات الشرطة وعنفها الموجه ضدّ المتظاهرين. بعد رواج الصورة، تحقّق صحافيون منها لتحديد مكانها الجغرافي والتحقيق في أمرها، ليكتشفوا أنها لم تكن سوى نتاج للذكاء الاصطناعي.
هذا الأرق الذي يصيب العالم، من التطور المتواصل في مجال الذكاء الاصطناعي، يتركّز حول تطوّره في أوقات قياسية ومتسارعة. كمّ المعلومات الخاطئة التي يُمكن للذكاء الاصطناعي إنتاجها، والسرعة التي يمكن لها أن تنتشر فيها، من المسائل الأكثر إثارةً للمخاوف. انتشار الشائعات والمعلومات التي من الصعب التأكد من صحتها تهديدُ مباشر للديمقراطيات. برمجيات الذكاء الاصطناعي، قادرة على اللعب في بنية وتصميم أي مُنتج بصري، سواء عبر إنتاجه من العدم أو التعديل على الأصل، التدخل في الإضاءة أو إنتاج فيديوهات بأصوات "حقيقية/مزوّرة". وهذا ما سيجعل كل صورة قابلة للتشكيك، حتى الحقيقي منها، وعملية التحقق من حقيقتها طويلة ومعقدة. وهذا ليس تفصيلاً؛ المشكلة تكمن في أن الجميع قادر على الفبركة. لا يحتاج الأمر إلى قدرات أو معارف كبيرة، لفبركة أي صورة لأي كان ثمّ نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتتكفّل الأخيرة بالباقي.
الصور الأخيرة التي لقيت رواجاً كبيراً، احتوت بعض الشوائب سمحت بكشف حقيقة أنها مزيّفة. تفاصيل دقيقة لم يتمكّن الى الآن الذكاء الاصطناعي من إتقانها، مثل اليدين أو الأصابع أو أجهزة تقويم الأسنان...
هذه الشوائب تعود إلى صعوبة إعادة تصوير هذه التفاصيل الصغيرة، أولاً لأن التركيب البنيوي معقّد، وكذلك إلى أن كل ما يقوم به الذكاء الاصطناعي هو نتاج معلومات يتمّ تزويده بها، وفي هذه الحالة صور حقيقية. وفي هذه الأخيرة، نادراً ما تظهر كفوف اليدين واضحة أو كل تفصيل آخر صغير. هذا التزييف سيكون له أثره المباشر على الرأي العام.. قدرة على التلاعب به، التأثير في قراراته السياسية، دفعه للتشكيك في كل ما يُمكن أن تقع العين عليه.