عصمت النمر في "طرب زمان"... أصوات من الماضي

10 مارس 2024
القاهرة في الثلاثينيات من القرن الماضي (Getty)
+ الخط -

منذ عقود، عرف المهتمون بالتراث الموسيقي الجراح المصري عصمت النمر الذي عُرف بحرصه على جمع التسجيلات القديمة لكبار مطربي عصر النهضة، وإتاحتها للهواة عبر المنتديات الموسيقية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال راديو الإنترنت "مصرفون" الذي دشنه ليبث من خلاله ثروته الكبيرة من الأسطوانات ونوادر التسجيلات لقدامى المطربين والعازفين والقراء والمنشدين.

استمرت خبرة عصمت النمر مع التسجيلات والوثائق والأرشفة نحو خمسين عاماً، فكان لزاما عليه أن يتيحها في كتاب، يجمع أشتاتها، ويضعها بين أيدي المنشغلين بهذا التراث، لا سيما من الشباب والأجيال الجديدة، وهو ما تحقق بصدور كتابه "طرب زمان"، الذي جاء في ما يربو على مئتي صفحة، وانقسم إلى تسعة فصول تقدم وجبة سهلة الهضم، لا تستعصي على غير المتخصص، لكنها تكفي لإعطاء صورة عامة عن قدماء المطربين، ومجتمع "العوالم" وأعلام الزجالين، وكبار العازفين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. كما يتناول الكتاب الصادر عن دار "المحرر" القاهرية شيئا من تاريخ مؤتمر الموسيقى العربية الأول، المنعقد عام 1932، وتعريفا بمعهد الموسيقى العربية في القاهرة، ولمحات من تاريخ أعلام القراء والمنشدين.

في الغناء، تولد الكلمة أولا، ثم يكون اللحن والأداء. لذا، خصص عصمت النمر الفصل الأول من كتابه للحديث عن أعلام الزجالين في مصر، وبدأ بقدمائهم كالغباري وابن عروس، ثم الشيخ الفحام، ومحمد عثمان جلال، وعبد الله النديم، ووصولاً إلى الشيخ يونس القاضي، مؤلف الطقاطيق الأشهر في العقود الأولى من القرن العشرين. لكن وقفة المؤلف الكبرى مع الزجل جاءت عند تناوله سيرة عملاق العامية محمود بيرم التونسي، الذي تغنى بأشعاره كبار أعلام الطرب في عصره، وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم.

وجاء الفصل الثاني من الكتاب ليتناول مكانة العازفين في عالم الغناء أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يقول المؤلف: "إن العازف كان دائما في مرتبة تالية لمرتبة المطرب، فهو مجرد تابع، وظيفته تهيئة الجو المقامي كي يساعد المطرب على الغناء، إلى أن ظهرت شركات الأسطوانات، وبدأت في طباعة المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، من بشارف وسماعيات وتقاسيم. وقد لاحظت شركات الأسطوانات الإقبال الكبير على تسجيلات العازفين، فتهافتت عليهم، وهو ما مكنهم من "الاستقلال" عن المطربين، ورفعهم إلى درجتهم".

وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، يشير عصمت النمر إلى ثلاثة من كبار العازفين، الذين حققوا شهرة ومجدا كبيرين، وحرصت شركات الأسطوانات على تسجيل عزفهم، وفي مقدمتهم عازف الكمان الأشهر سامي الشوا (1889- 1965)، الذي يكاد يمثل عاملا مشتركا في معظم الأسطوانات القديمة، للمطربين والمنشدين، وكان بلا ريب أكثر العازفين القدماء الذين وصلت إلينا تسجيلاتهم. عزف مع الشيخ يوسف المنيلاوي، وسيد الصفتي، ومع أم كلثوم في بدايات تختها، كما عزف في الأستانة، وفي كثير من دول العالم في أوروبا وأميركا.

وثانيهم: محمد أفندي العقاد (1850-1931) عازف القانون الشهير، الذي اشترك في تخت عبده الحامولي، وكان يبدأ الغناء في حفلاته إلى أن يصل "سي عبده" إلى مكان الحفل.. عمل رئيسا لتخت أم كلثوم وعبد الوهاب في بداياتهما الفنية، واشترك في تسجيل أغنياتهما الأولى. والثالث: عازف الكمان إبراهيم صهالون (1840- 1920) الذي انضم كذلك إلى تخت عبده الحامولي، فكان أول عازف يسمح له المطرب الأكبر بتقديم عزف منفرد بعد غنائه، وتميز بدقة ترجماته الجملة الغنائية المؤداة. يميل النمر إلى أن صهالون بدأ التسجيل تجاريا عام 1904، وصاحب كبار المطربين من أمثال المنيلاوي وعبد الحي حلمي ومحمد سالم العجوز، وسليمان أبو داود، ومنيرة المهدية.

في الفصل الثالث، يتناول عصمت النمر الدور الكبير للشيوخ والقراء في الغناء المصري، ويتوقف للتمثيل مع عدد من رموزهم، ومن بينهم الشيخ أحمد حسنين (1855- 1915) صاحب الصوت الممتاز الذي أهله للعمل مع عبده الحامولي، وكان من أوائل من سجلوا لشركات الأسطوانات، ومن أمثلة تسجيلاته: "يا مالك الروح الشجي"، "وكنت فين والحب فين" ودور "الحلو لما انعطف". ومنهم أيضا الشيخ أحمد صابر (1885- 1927) الذي تمتع -وفقا للمؤلف- بمكانة رفيعة بين أهل الفن، إلى درجة أن يحل محل "سي عبده" عند غيابه.

ويتوقف المؤلف في إشارات سريعة إلى عدد من شيوخ الطرب، ومن بينهم الشيخ أبو العلا محمد، والشيخ أحمد إدريس، والشيخ أمين حسنين، والشيخ سلامة حجازي، والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ حامد مرسي، والشيخ سيد الصفتي، والشيخ سيد درويش، والشيخة سكينة حسن.

وإذا كان الشيوخ يمثلون دائما الطرب الفصيح الجزيل، ويؤدون العامية الراقية، فإن المقابل الغنائي لهم يتمثل في ما يعرف بطرب "العوالم"، وقد خصص المؤلف الفصل الرابع من كتابه لاستعراضه، وتبيين الفرق بين المطربة "العالمة" وبين "الغازية"، فالأولى، مطربة تتسم بقدر من الحشمة، والمعرفة الموسيقية، وتحظى باحترام الأوساط المجتمعية الراقية، لكن الثانية، يتصف أداؤها بنوع من التهتك والابتذال.

يرى المؤلف أن العوالم تمتعن بمكانة كبيرة أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان الأغنياء يستأجرونهن للغناء في "الحرملك" أي بين النساء. وكن يكافأن بنثر العملات الذهبية تحت أقدامهن. ويعتبر عصمت النمر أن العصر الذهبي للعوالم يقع بين عامي 1900 و1920، فكانت العالمة المقتدرة تؤسس فرقة موسيقية لتصحبها من العازفين والمرددات، واتسم غناء العوالم في الأغلب بما عرف لاحقا بالغناء الهابط والركيك، وكان قالب الطقطوقة دائما هو الوعاء المناسب لهذا اللون.

يستعرض عصمت النمر عددا من أبرز أسماء المطربات والعوالم في هذه المرحلة، ومن بينهن: نعيمة المصرية، التي اشتهرت أواخر العشرينات، وكان لها مسرحها الخاص "الهامبرا"، ومن أشهر أغانيها: "يا بلح زغلول"، و"إن كنت شاريني"، و"قوم يا حبيبي بقينا الصبح".

تسابقت عليها شركات الأسطوانات، ولحن لها داود حسني وزكريا أحمد ومحمد القصبجي. ويلاحظ المؤلف أن نعيمة المصرية عاشت إلى عام 1976، من دون أن يفكر أحد في إجراء مقابلة معها أو توثيق حياتها الفنية، وليس لها أي لقاء صحافي أو إذاعي أو تلفزيوني. ومن المطربات العوالم أيضا، يذكر النمر أسماء: نرجس المهدية، وأسما الكمسارية، وأمينة شخلع، وأمينة الصرفية.

ورغم هيمنة الأغنيات الخفيفة على أداء المطربات والعوالم، إلا أنه من الملاحظ مشاركتهن الواضحة في الحياة المسرحية في العشرينيات. وتمثيلا يذكر المؤلف: سمحة المصرية، التي اشتركت مع عبد الوهاب في مسرحية "أنت وبختك" عام 1923، أو فاطمة قدري التي استعان بها المسرحي فوزي الجزايرلي.. بل منهن مطربات وجهن معظم نشاطهن إلى المسرح، مثل فاطة سري، أول مطربة تغني أوبرا كاملة هي "شمشون ودليلة".

في تاريخ الفن كثير من الأسماء التي لم تنل حقها من الشهرة والجماهيرية، وقد جعل المؤلف عنوان الفصل الخامس من كتابه: مجاهيل الفن في القرن العشرين، وفيه يستعرض بعض الأسماء من المطربات اللائي اعتبرهن "مجهولات"، لكن القارئ سيجد في هذا الفصل خليطا من المشهورات والمجهولات، ومن المطربات الكبيرات والعوالم الراقصات. يطالع القارئ في هذا الفصل اسم حياة صبري، المطربة التي شاركت سيد درويش الغناء، ويطالع اسم فاطمة سري، وهي من أشهر سيدات عصرها. لكن الدهشة تصل إلى ذروتها عند ذكر مطربة بوزن نجاة علي، أو "شيخة" مثل شافية أحمد.

لكن ربما كان ألطف وقفات هذا الفصل ما أورده المؤلف عن العالمة زوبة الكلوباتية، التي تعلمت الرقص على يد خديجة الونش، وغنت بعض الطقاطيق "الخليعة" مثل: يا جميل يا أبو خاتم ومنشة.. قلبي مايلك بس أنا كاشة". ظهرت زوبة في عدد من الأفلام، منها: فيلم "الخمسة جنيه" عام 1946، و"فتاة السيرك" عام 1951، كما ظهرت في فيلم ألماني عن الرقص الشرقي مع تحية كاريوكا.

اشتهرت الكلوباتية بالرقص وهي تحمل الشمعدان فوق رأسها، واشتهرت في حياتها بدرجة كبيرة جدا إلى حد أن يُصنع قماش زوبة، ومناديل زوبة، وفناجين زوبة، بل وصدور أغان عنها: مين بيحب زوبة.

مؤلف الكتاب، الطبيب عصمت النمر، ورئيس قسم الجراحة فى مستسفى الزقازيق في مصر، هو شاعر وناقد فني وموسيقى. شارك في تأسيس منتدى "سماعي"، وأسس راديو الإنترنت "مصرفون". وهو تجل واضح لظاهرة الأطباء الفنانين، المهتمين بالشعر أو بالغناء والطرب والتراث الموسيقي.

المساهمون