عربيّ في عاصمة الضباب: مشاهدات العابر

15 يوليو 2014
منظر من معالم لندن(Getty / CEZARY ZAREBSKI PHOTOGRPAHY)
+ الخط -
 
صباحاً، مع فنجان القهوة، في حديقة المنزل، حمامتان تهدلان بنعومة، إلى جانب سنجاب وحيد وصامت يتقافز ثم يلتقط خبزه ويهرب، وطائر كأنّه نقّار الخشب بصوته المزعج، كلّ يلتقط رزقه ممّا ألقاه صاحب المنزل. شمس غائمة، وسرعان ما يهطل مطر ناعم، ثم تعود الشمس ساطعة بقوّة.
إنّه الصباح الأول في ضاحية من ضواحي لندن.

لندن؟

قبل هبوطي من الطائرة في مطار هيثرو، كنت رأيت من الجو معالم المدينة وملامحها الشهيرة، فلم تفاجئني حين رأيتها في جولتي، اليوم التالي، بعد وصولي. لكنّني، وأنا في الطائرة، وكلّما كنّا نقترب من المدينة "الخرافيّة" بالنسبة لي، كنت أتساءل عمّا يمكن أن يكون عليه اللقاء مع هذا التاريخ الذي أنا مقبل عليه؟ من صنع كلّ هذه الفخامة، هذا العمقَ، و.. هذا الجنون؟

ولكم في القطار حياة

هنا، في القطار (الأندر غراوند)، حياة أخرى: مدينة ضاجّة بالحياة، غنيّة بالتفاصيل، وصاخبة. تجلس بين خليط من البشر في حيّز واحد، وتنظر بحبّ إلى هذا التمازج والاختلاط والتنوّع، من دون أيّ إحساس بالخلاف رغم الاختلاف. هنا الأبيض والأسود والأصفر والأحمر، وللجميع أن يتكلم باللغة نفسها، والنبرة نفسها، وإن اختلفت التفاصيل. فثمة شابّ أسود يتحدث بصوت مرتفع، ولا أحد ينهره أو يطلب إليه أن يخفض صوته، أو يصمت، مثلاً.

هنا، أجلس وأراقب سكّان القطار، من يصعد ومن يهبط، ثمة عجوز تترنّح من النعاس، وفتاة آسيوية منهمكة في قراءة كتاب، ورجل يأكل سندويشة ويشرب عصيراً، شابّ وفتاة يحتضنان بعضهما بعضاً مع قبلة كل دقيقة أو دقيقتين، دون أن يلتفتا إلى أحد، ودون أن يلتفت إليهما أحد. يصعد كهل يحمل كتاباً عربيّاً ويترنّح من أثر الخمرة كما يبدو، لكنه مهذّب ومتوازن إلى حدّ أنه لم يسقط في أرض القطار. لم يكن يتورّع أن يتحدث إلى من يجلس/تجلس بجواره، ويسأل عمّا يريد، فالبريطانيّون يميلون إلى التعاون والتجاوب غالباً، فيما يتحفّظون على القليل من المسائل. 

نساء ونساء

هنا، تلتقي نموذجين متناقضين من النساء العربيات، نموذج المرأة العاملة المتحرّرة، ونموذج المتديّنة المستعبَدَة من الزوج.

في الباب الأول، امرأة متزوجة ولها أطفال، لكنّها عاملة ومنتجة، وفوق ذلك رأيتها تدرس وتبحث، وعرفت أنها، وهي وسط أسرتها، أنجزت دراسات الماجستير والدكتوراه، وهي مستمرّة في البحث الأكاديمي والنظري في مجال "الجندر". أبناؤها يقيمون علاقات جيّدة مع زملائهم من الإنجليز، وبعضهم يلعب في أندية بريطانية شهيرة. حتّى أنّ علاقتهم بالبلد الأصلي الذي جاؤوا منه تضعف شيئاً فشيئاً، ويزدادون تعلّقا بالحياة هنا.

وفي الباب الثاني امرأة جاء بها زوجها وعمرها سبعة عشر (17 عاماً)، طفلة يعني، أنجبت له خلال سنوات عدداً من الأبناء، وهي الآن ترتدي الحجاب الكامل (النقاب)،  ولا تعرف من لندن سوى بيتها والحديقة المجاورة له. وهي فضلاً عن ذلك، وبتوجيه من الزوج طبعاً، لا تريد لأبنائها أن يقرأوا شيئاً غير القرآن، وتتعلم كيف تدفعهم إلى المسجد في سن مبكّرة، وترى ابنتها الطفلة ترتدي النقاب مثلها.

في شارع العرب: إدجوير

منذ هبوطك في محطة قطار ماربل آرتش، وعند مدخل الشارع، الواقع في وسط لندن، تفوح روائح العرب، طعامهم وأرجيلتهم وصراخهم وملابسهم. فملامح المكان عربية بامتياز، ولا تكاد ترى فيه سوى المعالم العربية، من المطاعم والمقاهي إلى اللافتات واللغة والروّاد. فمن مقهى البلد إلى الشيشاوي، حتّى مطعم مرّوش اللبناني الذي يمتلك فروعا عدّة في هذا الشارع، تتجوّل في عالم العرب، وتسمع اللهجات من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، مع طغيان الطابع الخليجيّ. وفي هذا الشارع يمكن أن تقابل امرأة بالحجاب، وقد ترى النقاب أيضاً.

تشكل علاقة العربيّ مع البريطانيين الأصليين هاجساً أساسيّاً للزائر، كما للمقيم. لكنّ الملحوظة الأساسية هنا هي أنّ في إمكان الجميع أن يندمجوا ويتعايشوا بلا أيّ مخاوف أو هواجس خطيرة.. ابن أختي فتى في السادسة عشرة، لم يمضِ على إقامته هنا سوى أربع سنوات، استطاع خلالها أن يقيم علاقات ودّية مع شباب من أصول متعددة، وتمكّن بموهبته من الدخول إلى واحد من أبرز الأندية الرياضية، ليكون عنصراً فاعلاً في فريق كرة القدم تحت سنّ 18 عاماً في النادي. وهو لا يشكو من أيّ ممارسات أو سلوكيات عنصرية من زملائه في النادي أو في المدرسة.

وحين تحاول، من خلال نظرة سريعة، معرفة صورة العرب في عيون البريطانيين، ترى أنّ السائد هو النظرة الوسطية المعتدلة، مع استثناءات طبعاً. فليس كلّ عربيّ إرهابيّا، أو قذراً مثلاً في عيون البريطانيين. فهم في الشارع وفي الأماكن العامة يعاملونك باحترام، ولا ترى في عيونهم أي نظرات استهجان لوجودك بينهم، لأنّ التنوّع محكوم بمثل ذلك الاحترام المتبادل.

ساعة في الصين

وليس بعيداً عن شارع العرب، ثمة الحي الصينيّ الذي تحتضنه منطقة بيكاديلي. وهنا تشعر بأنّك في العاصمة الصينيّة. إذ باستثناء بعض المطاعم (الأوروبية) كلّ شيء "صنع في الصين". من ملامح البشر إلى المطاعم والحانات ومحلات بيع الأدوية العشبيّة وصالونات الحلاقة. حتّى محلات المساج التي لا تخلو من أبعاد جنسية.. فضلاً عن الحانة الخاصة بالمثليّين من الجنسين (gay) التي يقف على بابها حارس إفريقي أسود يتلقّى القبل من الشباب والصبايا.

ساعتان لغزّة

وأخيراً، فقد شهدت العاصمة لندن واحدة من أكبر التظاهرات التي لم تشهدها منذ سنوات. ففي حي كنسنغتون العريق احتشد الآلاف من العرب والبريطانيين والأجانب، فضلاً عن يهود من حركة "ناطوري كارتا" المعادية لإسرائيل، وأغلقوا شوارع عدّة، تضامناً مع غزّة ضد العدوان الحربي الإسرائيلي عليها. ورفعوا لافتات تحمل شعارات التضامن والمطالبة بالحريّة لغزّة وفلسطين، وتندّد بالعدوان والاحتلال عموماً. 

 إلى ذلك كلّه، ورغم ذلك كلّه، فإنّك هنا لا تستطيع إلا أن تتذكر التاريخ الاستعماري/الكولونيالي لبريطانيا. هذا التاريخ الذي وضعك، أنت العربي، والفلسطيني خصوصاً، في ظروف المعاناة التي ما تزال تعيشها منذ ما يقارب قرناً من الزمن.

المساهمون