عبد العظيم عبد الحق... الهارب إلى الموسيقى

عبد العظيم عبد الحق... الهارب إلى الموسيقى

14 ابريل 2024
حققت ألحانه شهرةً من دون أن تحقق له نفس القدر من الجماهيرية (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- عبد العظيم عبد الحق، الملحن والممثل المصري، اختار مسار الفن متحدياً الضغوط الأسرية والاجتماعية، متجاوزاً توقعات أسرته بأن يتبع مساراً في الحقوق.
- في التلحين، حقق مكانة مقدرة بين الطبقات الشعبية بألحانه الشرقية الأصيلة، وترك بصمة واضحة في الساحة الفنية بأعمال غناها كبار المطربين، مثل "تحت الشجر يا وهيبة".
- كممثل، شارك في أعمال سينمائية وتلفزيونية بارزة مثل "المومياء" و"الرسالة"، محتفظاً بالاحترام والتقدير من الجمهور والنقاد، وتاركاً إرثاً فنياً غنياً يشهد على موهبته وإسهاماته في الثقافة المصرية.

لعل قصة الملحن والممثل المصري عبد العظيم عبد الحق (1906 - 1993) من أبرز قصص المعاناة في سبيل الفن، إذ استهواه التلحين والتمثيل مبكراً، فكانت العقبات أمامه بالغة التعقيد، حيث الانتماء لأسرة صعيدية، تحظى بمكانة اجتماعية وسياسية، ليس في معقلهم بأبي قرقاص في المنيا فحسب، بل على مستوى العاصمة والقطر المصري كله.

شقيقاه علمان من أعلام المجتمع والسياسة، ورمزان بارزان من رموز حزب الوفد. الأول، عبد الحميد باشا عبد الحق، عضو مجلس النواب عدة دورات، ووزير الشؤون الاجتماعية ثم الأوقاف في حكومة النحاس باشا، ثم وزير التموين في حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا، انتخب عام 1942 نقيباً للمحامين. بلغت مكانته أن يلحن محمد عبد الوهاب ويغني لتأييده في الانتخابات البرلمانية.

والثاني، عبد المجيد بك عبد الحق، وزير الاقتصاد المنتدب في وزارة النحاس السابعة. ووالد يرى أن من واجبه أن يفرض على ابنه دراسة الحقوق، كي ينال تلك المكانة الاجتماعية التي نالها شقيقاه، متمثلة في رتبة الباشوية، أو البكوية، ثم تولي الوزارة، وأن عليه أن يستخدم كل الوسائل بما فيها الضرب والتعنيف لمنع ابنه من الوقوع في "طريق الضياع"؛ أي الموسيقى والتمثيل. وهما في هذا التوقيت مجلبة للازدراء في الأرياف عموماً، وفي الصعيد خصوصاً، وعند العائلات الكبيرة المرموقة بالأخص. تحالفت الجغرافيا والتاريخ لمنع عبد العظيم عبد الحق من احتراف هوايته، لكن الفن كان قد امتلك قلبه وروحه، فلم يكن باستطاعة أحد أن يقف في طريقه، ولو توقفت الأرض عن الدوران.

ليس من الصعب على المهتم أن يدرك موقع عبد العظيم عبد الحق على خريطة الملحنين المصريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ يقف في تلك المنطقة المعلقة جماهيرياً، التي لم تصل مكانة أصحابها إلى رتبة الأعلام الرواد من أمثال عبد الوهاب والسنباطي، ولا نال رموزها شهرة المجربين الجدد، من أمثال منير مراد وبليغ حمدي وكمال الطويل. إنه يقف في تلك المنطقة الهادئة القريبة من الطبقات الشعبية، التي تضم بين رموزها أحمد صدقي، ومحمود الشريف، وعبد العظيم محمد. بين هؤلاء، يجد عبد الحق لنفسه مكاناً رحيباً ومكانة مقدرة.
 
لكن شهرة عبد العظيم عبد الحق الممثل كانت أكبر من شهرته ملحناً، بل إن شهرة وجهه بقيت أوسع كثيراً من شهرة اسمه. اشترك الرجل بالتمثيل في عدد كبير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وكان يترك أثره في المشاهد، حتى لو كان حجم الدور محدوداً.

وبينما اعتزل التلحين لعدة سنوات قبل رحيله، استمر في قبول الأدوار السينمائية حتى آخر حياته. وقبل رحيله بأسابيع، اشترك بالتمثيل في فيلم "لصوص خمس نجوم" عام 1993، وتحديداً بدور عم عبد الله المسكين. وقبلها بعام اشترك في فيلم "الإرهاب والكباب" بمشهد واحد، مع عادل إمام، لم ينمحِ من ذاكرة المشاهدين، لراكب الأتوبيس الهَرم، والساخط على السلوك الشعبي السلبي.

ومن أدواره المحفورة في الذاكرة الجماهيرية، تجسيده لشخصية العم الثاني لونيس في فيلم "المومياء"، من إخراج شادي عبد السلام عام 1969، وكذلك تمثيله شخصية النجاشي في فيلم الرسالة، من إخراج مصطفى العقاد عام 1976. وكان للرجل نصيب وافر من الدراما التلفزيونية، ومنها اشتراكه في مسلسل "ليالي الحلمية"، بشخصية أبو شعيشع.

وقد بدأ عبد العظيم عبد الحق مسيرته الفنية بالتمثيل، الذي سبق ممارسته التلحين للإذاعة بنحو عقدين من الزمان. التحق بكورس فرقة أمين صدقي المسرحية عام 1928، بعدما هرب من بلدته إلى القاهرة، لتبدأ وقائع الصدام مع والده وأسرته. يتكرر الهروب فيتكرر الصدام والضرب المبرح، من دون أن يتزعزع الشاب عن موقفه. في العام 1938، يشترك بالتمثيل في فيلم "يحيا الحب"، مع محمد عبد الوهاب، لتبدأ رحلته مع السينما، والتي بلغت 55 عاماً.

بدأت رحلة عبد العظيم عبد الحق مع التلحين بكلمات لمأمون الشناوي، عن "الصيادين"، ليغنيها كارم محمود، فتحقق نجاحاً كبيراً: "هو هو الرزق بإيده. هو يفعل ما يريده. هو الكل عبيده". ثم توالت الأعمال بأصوات نجوم الغناء ومنهم، نجاة علي، ومحمد قنديل، وسعاد محمد، وعائشة حسن، وعبد المطلب، وإسماعيل شبانة، وحورية حسن، وسيد إسماعيل، وفايدة كامل، ونجاح سلام، وعبد اللطيف التلباني، وليلى حلمي، وأحمد سامي.

حقّق بعض ألحان الرجل شهرة مدوية، من دون أن تحقق له نفس القدر من الجماهيرية، والمثال الأبرز لتلك الأعمال هو أغنية "تحت الشجر يا وهيبة" التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي، وغناها محمد رشدي، فكانت -في حينها- قنبلة غنائية شعبية، تغنت بها مصر كلها، ومثلت نقطة فارقة في مسيرة رشدي. كما أنها عاشت لسنوات وعقود، تتذكرها الجماهير وتستعيدها.

ومن مشهوراته كذلك، طقطوقة "سحب رمشه" التي غناها محمد قنديل، من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى: "سحب رمشه ورد الباب. نسيت أعمل لقلبي حجاب". ويعد قنديل من أكثر المطربين الذين تعاونوا مع عبد الحق، ومن ثمرات هذا التعاون أغنيات: "ألفين صلاة ع النبي"، من كلمات إمام الصفطاوي، و"حل السواقي" من كلمات علي سليمان، وقصيدة "يا علي القدر" و"اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني"، وكلاهما للشاعر عبد الفتاح مصطفى، و"الفرحة تمت علينا" وهو دويتو لقنديل مع فايزة أحمد، من كلمات زين العابدين عبد الله، و"اتمد يا عمري" من كلمات الأبنودي أيضاً، وكانت بمناسبة بناء السد العالي، و"هدي الخطاوي" من كلمات محمد إسماعيل. لكن تظل أغنية "وحدة ما يغلبها غلاب" التي كتبها بيرم التونسي هي أشهر ما لحن عبد الحق لقنديل، وربما أشهر ألحانه على الإطلاق، وهي شهرة كانت أسبابها السياسية أكبر كثيراً من الأسباب الفنية.

مر عبد الحق بمراحل تأسيسية مهمة، بدأت بريادته لفريق الموسيقى المدرسية، ثم حفظ كثيراً من ألحان سيد درويش. وبعد هروبه إلى القاهرة، التحق بجوقة الشيخ محمود صبح لأربع سنوات، فصقلت مهاراته في التلحين، وفي فهم أصول الغناء، ثم تتلمذ على الشيخ زكريا أحمد أربع سنوات أخرى، وتشرب منه ما سماه "فقه الموسيقى الشرقية".

لكنه قَبِل عام 1948 نصيحة من العالم الموسيقي محمود أحمد الحفني بضرورة الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى المسرحية، فزامل على كبر سنه كلا من عبد الحليم حافظ، وإسماعيل شبانة، وكمال الطويل، وفؤاد حلمي، وسيد إسماعيل، قبل أن يتخرج من المعهد عام 1953، وكان يعمل حينها مديراً لمكتب وزير التموين، وظل لفترة طويلة من حياته محافظاً على الوظيفة الحكومية، مستغنياً بها عن أي تنازل فني تفرضه ضغوط الحياة.

ومع تلحينه لكبار المطربين، لم يتوقف عبد الحق عن تلحين الأوبريتات الإذاعية، مثل "صفحات المجد"، و"الأستاذ رمضان"، و"المسامح كريم". كما وضع الموسيقى التصويرية أو المقدمات الغنائية لكثير من المسلسلات التلفزيونية، والأفلام السينمائية.

انحاز عبد الحق دائما إلى الطابع الشرقي للموسيقى، واستعلن برفضه لألحان عبد الوهاب المتأخرة، كما رفض فكرة "الاقتباس" بالكلية، سواء عن الموسيقى الغربية، أم عن ملحن شرقي آخر، ورأى أنها سرقة، وأبدى أسفه لدفاع عبد الوهاب عن هذا التصرف، كما اتهمه بأخذ جملة من أغنية لحنها للمطربة حورية حسن، تقول: "والله عليا دين، وندر شمعتين، شمعة لأم هاشم، وشمعة للحسين"، ونقلها إلى أغنيته "أنا والعذاب وهواك"، وتحديداً في مقطع: "أهل الهوى مساكين، صابرين ومش صابرين، وبيحسدوا الخالي". واعتبر أن "تطوير" عبد الوهاب كان خارج روح الموسيقى الشرقية، وأنه جبل يهدم نفسه. لخص علاقته بعبد الوهاب قائلاً: "أحبه شخصياً، وأعاديه فنياً".

انتقد حبس فايزة أحمد نفسها في ألحان محمد سلطان، واعتبر أن عبد الحليم حافظ مجرد مؤدٍّ، محدود الإمكانات، وأن عفاف راضي ظُلمت عندما حاول المحيطون بها إلباسها ثوب فيروز. كما رأى أن بليغ حمدي مسكين، تورط في محاولات للقفز بخطوات واسعة، ثم لبس ثوباً واسعاً جداً، لم يستطع أن يملأه.

عاش عبد العظيم عبد الحق حياته متمتعاً بقدر كبير من الاحترام والتقدير، بعدما استطاع أن ينقل للناس مشاعر الصدق والإخلاص للفن، وحرص حتى رحيله على ألا يتورط في ما يشين، لا سلوكيا ولا فنيا، واتسمت محاوراته ولقاءاته التلفزيونية بالصراحة والوضوح ورفض المجاملات.

وعلى التقريب، ترك الرجل 500 لحن، واشترك بالتمثيل في مئات من المسلسلات والأفلام التلفزيونية والسينمائية، والسهرات الإذاعية، واستطاع بجسده النحيل، وتعابير وجهه المفعمة بالطيبة وبألحانه التي لا تتعالى على الناس، لا بكلاسيكية قديمة، ولا بحداثيات غربية، أن يصبح أحد بناة الوجدان الشعبي في النصف الثاني من القرن العشرين.

المساهمون