عبد الرؤوف شمعون الذي غادرنا

05 مارس 2024
بدأ الراحل مسيرته ككاتب قبل أن ينتقل إلى الرسم (إكس)
+ الخط -

الرجل الرقيق، النحيف جداً، الذي تخشى عليه أن يطير لو كانت الريح قوية، يغادرنا أخيراً، خفيفاً ومتخففاً من كل ما هو أرضي، كأنه إذ مات استردّ طبيعته فإذا هي شفيفة ورقيقة مثله.

عبد الرؤوف شمعون (1945-2024)، التشكيلي والناقد والكاتب، الذي غادرنا قبل أيام، على حياء وبخجل كأنه يعتذر، هو واحد من أبرز التشكيليين الأردنيين (أقيم معرضه الأول عام 1972)، ومن الموجة الثانية التي تلت جيل رواد الحركة التشكيلية في الأردن.

ومن المفارقات التي فجرتها وفاته أن نعرف أنه من مواليد قطاع غزة لا عمّان كما تذكر بعض المصادر، وأنه تخرج من الجامعة الأردنية مطلع سبعينيات القرن الماضي في تخصص الجغرافيا لا الفنون (لم تكن هناك كليات فنون في الجامعة آنذاك)، وأنه بدأ كاتباً لا فناناً تشكيلياً. وبحسب أصدقاء الراحل، فإنه كتب القصة القصيرة قبل أن يبدأ باكتشاف موهبته الفنية، فتتلمذ على يد مهنا الدرة (1938-2021)، ولم تتيسر له فرصة السفر إلى روما لدراسة الفنون هناك، بل فرصة العمل مدرساً في السعودية لبضع سنوات.

لا تعرف الكثير من التفاصيل عن حياة شمعون الذي لم يكن معنياً بتسويق نفسه، ولا محترفاً في بيع لوحاته، ذلك أنه تماهى مع صورة الفنان فيه، لكنه وقد سكن في مخيم الوحدات فترة من الزمن، وقبله في مخيم الفوّار (الخليل) وجد أن الخيمة التي سكنها تنتقل إلى لوحاته، إلى لا وعيها، وأن وجهه هو قد تحوّل إلى قناع في لوحاته، كأنه يسكنها. كأن الخيمة، وهي مؤقت في حياة الفلسطينيين، لم تكن سكنه وسكناه بل اللوحة، وكأن وجهه نفسه قد غادره واستوطن لوحاته، خصوصاً في آخر عشرين عاماً من حياته الفنية، وأن هذا الوجه قد أصبح قناعاً، فإذا أزلت القناع عن الوجوه في لوحاته لن تجد سوى وجه عبد الرؤوف شمعون، الحزين، المتأمل، والمتمهل. كأن المكان بالنسبة إليه فكرة، مجرد فكرة، لا تصلح للسكنى بل للكشط الذي يعريها بحثاً عن الدائم فيها، لكن ذلك الدائم لم يعد هنا، في حياته، بل هناك، في فلسطين، وتحديداً قطاع غزة التي كانت تنأى كلما تقدم الفتى في العمر وتخمّر في التجارب.

كأنه مقذوف في الفراغ، لذلك خفّ الفتى ونحل وشفّ حتى كأنه هو نفسه مجرد حلم أو فكرة.

لكن رجلاً هذا شأنه لم تعدم من يتذكره أرضياً مثلنا، أولئك الذين درسهم في المرحلة الثانوية في جبل الحسين، أولئك الذين تفتح وعيهم على معنى الجمال على يديه.

بدأ عبد الرؤوف واقعياً، وانتهى تجريدياً بلمسات تعبيرية قوية، وبتفلّت من التصنيفات، كأنما لا مدرسة تعبّر عنه، بل أسلوب واحد هو نفسه. وفي لوحاته الأخيرة حضرت الوجوه بقوة. وجوه كثيرة، بملامح كبيرة، وبعيون شبه مطفأة، كأنها تنظر إلى الداخل، وذلك بالضبط في رأيي هو عبد الرؤوف شمعون وقد قفز إلى القماش وتغلغل بين الألوان.

في واحدة من هذه اللوحات يبدو كأنه يرسم نفسه، فنكتشف جمجمة نوبية أو تكاد، وعينين مفتوحتين على وسعهما لكنهما لا تنظران إليك، فلا بؤبؤ للعين في لوحاته، ولكنهما رغم ذلك تريان، إذ إنهما تنظران إلى قعر الروح، الروح الحزين، المشوّش بلا حكمة تأتي، الروح المتأملة لكن بلا مرافئ للسفينة.

كأن الرحلة كلها هي النظر، هي الرؤية والرؤيا، فلا رسالة ولا محمولات فكرية أو أيديولوجية في لوحاته، بل الرؤية إذ تكتفي بمتعة أن تنشغل بنفسها عن الناس أجمعين.

اثنان هما في تاريخ الأدب والفنون في الأردن من انشغلا تماماً بالنظر في قعر روحيهما: عبد الرؤوف شمعون وجمال أبو حمدان، وكلاهما كان قليل الكلام، قليل الادّعاء والظهور الإعلامي، وكلاهما نحيل ومؤقت. عاش عبد الرؤوف السنوات الحاسمة من يفاعته في المخيم، وهو مؤقت، بينما عاش أبو حمدان حياته كلها في منازل مؤقتة بينما قبره فيه، وقبر الدرزي هناك، في الماضي، وفي مكان آخر دائماً.

كان الرجلان صديقين، وكلاهما كان صديق إلياس فركوح الذي كنا نجدهما في ضيافته في دار النشر التي كان يديرها.

كلاهما كان مقذوفاً في الفراغ، فراغ الأمكنة، وكلاهما رحل خفيفاً ومتخففاً من مباذل الإنسان التي نتخبط نحن فيها.

وداعاً عبد الرؤوف شمعون. وداعاً يا صديقي.

المساهمون