عازار حبيب: أغنيات مقيمة في الحلم

30 نوفمبر 2022
استثمر عازار حبيب وسامته على الخشبة وخلف الميكروفون (فيسبوك)
+ الخط -

سجّل كل من توجّه فريد الأطرش (1917 - 1974) نحو إذاعة الشرق الأدنى في لبنان منتصف ستينيات القرن الماضي، إثر خلاف مزمن مع الإذاعية المصرية، وسطوع نجم عبد الحليم حافظ (1929 - 1977) في مصر، علامة فارقة في تاريخ الأغنية العربية. قد رافق ذلك، ومهّد له، تبدّلٌ في الذائقة الفنية لدى الطبقة الوسطى في مصر والشام، وذلك مع صعود التيارات الثورية ذات الميل الاشتراكي في حقبة ما بعد الاستعمار.
عندها، لم يعد طرب البلاط الخديوي هو القطب الأسلوبي على صعيد كلّ من التلحين والأداء، والذي رنت إليه فيما مضى الأسماء الرنّانة كأم كلثوم (1898 - 1975) ومحمد عبد الوهاب (1902 - 1991)، وإنما صار للأغنية الشعبية، ذات النفحة الريفية، مستقبلٌ يعد بحضور أعمّ وأكثر انسجاماً مع الثقافة السائدة وروح العصر.
في مصر، جمع عبد الحليم حافظ في كلّ من الغناء والأداء النضارة الفلاحية والرقة الشاعرية، مُعبّراً عن جيل جديد، لوّحت سمرته شمس الصعيد، وشكّلت شخصيته مظاهر الحداثة الغربية، فبات يبحث لنفسه عن أغنية جديدة. في لبنان، وبعدما اعتبره هو إغلاق القاهرة لأبوابها في وجهه، فتح فريد الأطرش قريحته التلحينية على بيروت. لحّن لحناجر لبنانية فذّة، كوديع الصافي (1921 - 2013) وصباح (1927 - 2014). انعدام المسافة بين الريف والحضر، بفعل صغر لبنان وخصوصيته الجغرافية المتمثلة بالتصاق الجبل بالبحر، جعل من أنماط الغناء، كالموال والعتابا، ورقص أهل القرى كالدبكة بإيقاعاتها الوثّابة، ثوابت شكلية لأغنية جماهيرية في طور التسيّد.
هكذا، منتصف السبعينيات، وخصوصاً بعدما تأسس حضور الأخوين رحباني وفيروز في المشهد، بات لبنان حاضناً عربياً للمرحلة الفنية الجديدة. من مخاض الأغنية الجماهيرية الصاعدة، ثمرة تلاقح العنصر الشعبي الريفي مع الشاعري الحداثي غربيّ الهوى، ولد جيل جديد من المطربين، أغلبهم لبنانيون، يُعد عازار حبيب (1945 - 2007)، الذي تصادف في نوفمبر/تشرين الثاني، ذكرى ميلاده ورحيله، أحد النماذج الأكثر تعبيراً عن تلك المرحلة.
على نهج فريد الأطرش، على طول مسيرة فنية كملحّن ومغنّ، اعتمد حبيب العناصر الريفية بغية إضافة مسحة شعبية وهوية لبنانية على الأغنية، من دون التفريط في أصول الأداء الملتزم، لجهة كل من التلحين والتطريب المستمد من المدرسة المصرية. من تلك العناصر، كانت آلة البزق الشائعة في الريف اللبناني، والتي سبق لفريد أن وظّفها في ألحانه المتأخرة؛ إذ أجاد حبيب العزف عليها والتلحين بواسطتها، على غرار أحد أبرز مُرشديه، مطر محمد (1939 - 1995).
مِثل عبد الحليم حافظ، استثمر عازار حبيب وسامته وألق حضوره على الخشبة وخلف الميكروفون، في عصر بدأ فيه التلفزيون يُهيمن على وسائل الإعلام ويُشكّل صلةً مرئيةً، لم تعد مقصورة على الأذن. مثّل هذا علاقة جديدة بين الأغنية وجمهورها، الذي تجاوز بسعته جدران المسرح، وصار لشكل الفنان، وجاذبيته أهمية بالغة، خصوصاً مع اقتراب عدسة الكامير بفضل "اللقطة المقربة" (Close up)، ليُصبح الاستماع إلى كلّ أغنية في البيت بمثابة حضور فيلم في دار السينما. ضمن هذا الإطار المرئي المستجد، حافظ حبيب على طلة بهيّة متّزنة؛ مثل عبد الحليم، عكس إلى المستمع، والمتفرّج، صورةً لرجولة مخفّفة الذكورة، تُميّزها رقّة الملامح، وحساسية المشاعر، تآلفاً مع عذوبة في الصوت وشعرية في الأداء، تنقل إلى الناس، عبر كلمات الأغنية وألحانها، حديثاً هادئاً، حميمياً في الحب، وفي أحواله وأطواره.


لئن كانت آلة البزق في أغنية عازار حبيب، صوت الهوية الثقافية للريف اللبناني، والصوت الناطق بلسان حال جمهور الأغنية الجديدة، من أبناء الطبقة الوسطى الصاعدة في لبنان والعالم العربي، مثّل الغيتار الكهربائي والأورغ المُركِّب للأصوات (السينثسايزر) صوت الحداثة بلُبوسها الغربي.
في أغنيته "عَ جبين الليل" التي صوّرها التلفزيون السوري بداية الثمانينيات، تتناهى الفرقة الموسيقية، بآلاتها التقليدية لتلك الفترة، من وترية وشرقية موسيقية وإيقاعية، وقد أُنزِلت حوضاً من الأصوات الكهربائية، تعزف ائتلافات نغمية غربية الطابع، توائم لحن الأغنية على مقام الكرد، خالي البُعيدات الشرقية.
ثمة مقاربة حداثية لافتة في تلك الأغنية، حيث تُوظّف الآلات الكهربائية كمؤثرات صوتية غائرة، الغاية منها تغليف الأغنية، أكثر منها الاضطلاع بأدوارٍ آلية نافرة، أُسنِدت لتُسمَع كسائر آلات الفرقة. وفي هذا اقترابٌ، وإن بصورة هادئة غنائية، من نمط الأغنية البوب الهجين الجامع بين الفلكلور، الروك والإلكترونيات، الذي راج في الغرب بين منتصف الستينيات حتى الثمانينيات، وعُرِف بالسايكاديليك روك.
يُعد احتضان الغيتار الكهربائي والأورغ في أغاني عازار حبيب، استمراراً لتوجه كان قد بدأ في مصر، من خلال إدراجها ضمن الفرق المُصاحبة للأصوات الغنائية العريقة كأم كلثوم وعبد الوهاب. إلا أن تلك الآلات شهدت تجاوز الصفة التمثيلية في الاقتصار على كونها عناصر أجنبية، تُضفي على الأغنية مظهراً حداثياً، وأخذت تلعب دوراً تأثيرياً ودرامياً ضمن أغاني عبد الحليم.
في لبنان، الذي برز خلال تلك الفترة الرمز الشرق أوسطي لكل ما هو حديث وعصري، كان التأثير الغربي، سواءً من خلال شيوع الأشكال الغنائية الجماهيرية العالمية، أو استعمال الآلات الموسيقية الكهربائية والإلكترونية من لبّ المشهد الفني والموسيقي.

لذا، لم يكن مُستغرباً لبنانياً أن بدأ حبيب مشواره الفني بغنائه ضمن فرقة تُقدِّم الأغاني الأجنبية، بلغات كالإنكليزية والفرنسية. ولم يكن مستغرباً، لبنانياً أيضاً، أن تمتع بجميع المؤهلات التي جعلت منه مُطرباً، جمع بين الأصول الكلاسيكية للغناء العربي والغناء الشعبي الريفي، وذللك بحكم الولادة والنشأة في السهول الزراعية الخصبة من البقاع اللبناني.

تلك المشارب المتنوعة، المتآلفة والمتناقضة في آن، لحياة ثقافية عربية منفتحة نسبياً، تنشط ضمن بقعة جيوثقافية شديدة الحيوية والكثافة، جعلت من لبنان البيئة المُثلى لولادة الأغنية الجماهيرية الجديدة، بصوت وصورة نجوم مرحلة، كعازار حبيب. أغنيّة، عبّرت عن مزاج عام وذائقة خاصة بجيل جديد ذي ملامح جماهيرية، على الرغم، أو ربما بدفع من، كل ما أحاطه من مشكلات ونزاعات، كان لبنان بحربه الأهلية مسرحاً دموياً لها، آثر الاستماع إلى خطاب الحب الرومانسي، والإقامة في الحلم.

المساهمون