صور نزوح الغزّيين: السّير على أرض تحترق

20 نوفمبر 2023
ستبقى صورة الفلسطينيين المهجرين أفواجاً ستبقى وصمة عار (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

تهيمن حكاية هزيمة الجيوش العربية على سرديّة النكبة الفلسطينيّة عام 1948، إذ تتسلل بينها صور الفلسطينيين المهجرين عام 1948 بوصفها علامة على تهجير قسري، غادرت ذكراه الذاكرة الجمعية. صور لمهجرّين لا نعرف أسماءهم، ملامحهم تضيع لتبقى الحكاية، تلك التي جمع بعضها أرشيف النكبة، وتبقى صور لفلسطينيين يحملون مفاتيح منازلهم التي ما زلت في أعناق الكثيرين حتى الآن. 
تلك الصور التي وجدت لها صدى في مطلع الثورة السوريّة، حين استهدف النظام السوريّ مخيم اليرموك في ريف دمشق، وعادت إلى الذاكرة صورة التهجير. ولعل أشهرها تلك التي تحمل اسم "سفر الخروج" للمصور الفلسطيني نيراز سعيد، الذي اختُطف وقُتل تحت التعذيب في أحد سجون النظام السوري. نشاهد في الصورة حشوداً من قاطني المخيم يغادرونه عام 2014، بعد اشتداد قصف النظام السوريّ على المخيم. 

يغادرون مخيّم اليرموك عام 2014 (Getty)

عادت هذه الصورة إلى الذاكرة الآن منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإصرار الجيش الإسرائيلي على إخلاء شمال قطاع غزة. الصور التي تُتداول بوصفها "انتصاراً للجيش الإسرائيلي" تعيد إلى الذاكرة ما حصل إثر النكبة. لكن، هذه المرة، المهجرون بلا حقائب وبلا متاع، ممنوعون من حملها. أكياس وحقائب ظهر تشهد على المقتلة، وتشهد كذلك على "النكبة الثانية"؛ العبارة التي يرفض سكان شمالي القطاع تكرارها. 
لا حقائب في الصور، بل مجرد أكياس وبطانيات. يرحل/ينزح/يلجأ سكان الشمال، بما عليهم من ثياب. تُباد الذاكرة، وتُحول إلى أغراض تُحمل على الجسد، في كيس أو حقيبة. الجسد ذاته المهدد بالموت على طريق الفرار، إذ لم يتردد الجيش الإسرائيلي في قصف شارع صلاح الدين، الذي وصف بأنه "طريق آمن". مع ذلك، تتالت أخبار استهدافه. بصورة ما، الموت يتحرك في كل مكان. من نرى صورهم، هم ضحايا محتملون لصاروخ أو قذيفة. صورة النزوح هنا ليست لمن نجوا بحياتهم وذاكرتهم، بل لضحايا محتملين. 

لا حقائب في الصور. مجرد أكياس وبطانيات (بلال خالد/ الأناضول)
لا حقائب في الصور. مجرد أكياس وبطانيات (بلال خالد/ الأناضول)

نشر ديفيد هوروفيتز في صحيفة Times Of Israel مقالاً بعنوان "جيش الدفاع الإسرائيلي لا يبحث عن صورة النصر، بل النصر، مهما طال الوقت"، معلقاً على الصور التي ينشرها جيش الاحتلال بوصفها "تصلح في رفع المعنويات"، لكنها ليست هدف الجيش الذي يبحث عن النصر، مشيراً إلى صور الجنود الإسرئيليين في إحدى المدارس. لكن ليست هذه فقط صور "النصر" المزعوم، إذ تنتشر صور الفلسطينيين وهم يحملون أعلاماً بيضاء أثناء هربهم، تلك التي تتبعها بلاغة أن هذه جهود "القضاء على الإرهاب". وهنا تكمن المفارقة شديدة التراجيديّة، "صورة النصر" تتحرك بين جنود إسرائيليين في مدرسة، وأطفال مهجرين يحملون أعلاماً بيضاء. ليست صورة لـ"أهداف" جرت تصفيتها، أو مخازن أسلحة عملاقة. يمكن القول إنه في متخيل الجيش الإسرائيلي، تتمثّل صورة النصر بغزّة فارغة، لا أبنية فيها، فقط أرض خراب، وهذا ما دفع بعضهم إلى القول إن مشهد النكبة تكرر في مدينة خانيونس، حيث أقيمت خيام "أونروا" لإيواء النازحين. 

تتعامل إسرائيل مع سكان غزة على أنهم كتلة بشريّة وليسوا أفراداً (محمود الهمص/ Getty)

تتعامل إسرائيل مع سكان غزة على أنهم كتلة بشريّة، وليسوا أفراداً. تنشر صوراً للخرائط كي يتحركوا ضمنها، مع أوامر وتهديدات بالإخلاء وسلك طرق محددة. هم ليسوا أفراداً ذوي حيوات متعددة ومتباينة، بل كتلة واحدة لا بد من تحريكها. والحركة هنا أمر سياسيّ. هي إما علامة على الهزيمة أو النجاة بالحياة. لكن الأهم، هي معطلة. الحصار والجوع والمرض يعطل الانتقال، ليتحول درب النجاة إلى مسابقة من نوع ما، ينجو فيها الأقدر، والأرض ذاتها غير مخصصة للمشي بسبب الحطام والشظايا، ما يُفشل فعالية تكرار المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تسأل عن كرسي عجلات لمساعدة من لا يستطيع المشي.
تخريب الأرض الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي هدفه عطب الفلسطينيين، وتهديد نجاتهم بأي شكل كان. نرى في صورة طفلة محمولة على كرسي بلاستيكي. لا نعلم إن كانت عاجزة عن المشي أم لا، لكن قدميها لا تطآن الأرض، أو كومة الخراب الوعرة. الأكثر مأساوية في الصورة هي الأحذية، أو بصورة أدق، غياب الأحذية. من هم في الصورة يرتدون أخفافاً بلاستيكية، أما الفتاة فبلا حذاء. الواضح، إذاً، أن الفرار أو الهرب أو النزوح جرى على عجل. بصورة أدق، الركض غير ممكن، بسبب الأرض المخرّبة وضرورة سرعة الانتقال جنوباً، خوفاً من القصف، من دون حذاء. يعني أنه لم يكن هناك وقت حتى للتجهز للرحيل أو الهرب. وكأن الهاربين موجودون في حقل صبار يحترق، لا بد من الفرار رغم الألم. 

تغادر مدينة غزة نحو الجنوب (محمود الهمص/ فرانس برس)

ربما أكثر تجليات المأساة حالياً هي حكاية عبلة عوض ذات الـ80 عاماً، التي عاشت نكبة الـ48 حين كانت بعمر الخامسة، إذ هجّرت مع أهلها حينها، والآن أجبرت على النزوح من شمال غزّة. صورة عوض وصوتها وهي تتحدث شاهدان على وحشية الاستعمار. والأهم، الإصرار على تحقيق الحلم الصهيوني الذي يتردد دوماً. كلمات عوض مليئة بالحزن والدموع، والأهم سؤال يتردد: "ما الذي فعلناه لهم؟". 
لا مكان للإجابة عن سؤال عوض الآن، لكن ما نعرفه أننا أمام دفق جديد من صور التهجير ستضاف إلى الأرشيف. إلا أنها هذه المرة ليست صوراً بدقة مخفضة تحوي وجوهاً لا نعرف أسماء أصحابها، بل صور بدقة عالية لأفراد بعينهم، لكل منهم حكاية وصوت وذاكرة. كم هائل من الشهادات الحيّة. نحن أمام أرشيف من صور يُخلق أمامنا حالياً، بالبث المباشر، "كلنا" الآن شهود على النزوح الجماعيّ. شهود على إبادة وتهجير قسري وجرائم ضد الإنسانيّة. لا مجال للجدل حولها كما في السابق، هي ليست معركة، بل انتقام، يحمل إثره الفلسطينيون أشلاء أحبائهم في أكياس  أمام "العالم" العاجز حتى عن وقف إطلاق النار. 
صورة جموع الفلسطينيين المهجرين أفواجاً ستبقى وصمة عار في ضمير الإنسانيّة بأكملها، منذ النكبة مروراً بـ2014 حتى 2023. أفواج من الهاربين في شارع صلاح الدين، صورة التغريبة الفلسطينيّة لا فكاك منها الآن، والكلّ مدان بسبب هذه المأساة التي يشهدها العالم تحت حجة "الحق بالدفاع عن النفس".

المساهمون