منذ أن بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا، ورحيل الأوكرانيين عن بيوتهم ومدنهم، ثمة أصوات تعلو مقارنةً كيفية تعامل شرطة الحدود البولندية مع اللاجئ الأسمر، الشرق أوسطي، بذاك الأبيض- الأوروبي، بل وصلت المقارنة إلى أن أحد المعلقين السياسيين قالها بوضوح: "هؤلاء بيض لديهم إنستغرام ويشاهدون نتفليكس، أما "الآخرون" فسمر، من بلدان قمعية لها تاريخ في الحروب".
الأكثر تداولاً، في هذا السياق، كانت الصور التي يظهر فيها رجال الشرطة وحرس الحدود البولنديون، يحاصرون اللاجئين العراقيين ويمنعونهم من الحركة وتخطي الحدود. وفي صور أخرى، نراهم يرحبون بالأوكرانيين، ويمهدون لهم الطريق. لن نحاول أن نبرر التصرفات أو ندّعي أنه لا توجد عنصريّة أو كراهية، لكن لا بد من الإضاءة على المصطلحين وعلاقتهما بأسلوب التعامل مع "القادمين الجدد"، خصوصاً أن الصور المستخدمة للمقارنة ليست دقيقة، وتختلف أساليب الإشارة إليها. لكن الواضح أن هناك متخيلاً لدى المشاهدين حول الصور، وهذا بحد ذاته يكشف عن التصور المتداول حول علاقة أوروبا مع أنواع المهاجرين.
ما يثير الاهتمام في القضايا التي تتعلق باللاجئين، أو "الغرباء"، مهما كانت جنسيتهم، هو "الكراهية"، التي ننظر إليها كمفهوم، لا تتم تغذيته وصناعته ثقافياً وسياسياً فحسب، بل كشعور ذاتي أيضاً، حتى يمكن القول إنه شكل من أشكال المشاعر اللاموضوعيّة، التي في بعض الأحيان لا يمكن تغييرها، ولو بثت نتفليكس مئات المسلسلات، وحجب فيسبوك ملايين المنشورات والتعليقات التي تبثها؛ فإن كراهية الآخر، أو التحبب له والاعتراف بمأساته، شأن ثقافي وذاتي بحت، لا يمكن فرضه بالقانون، الذي من المفترض أنه ينتصر للجميع، ويحمي الأضعف؛ إذ إن القانون هو قوة تتجاوز الكراهيّة وتتجاهل وجودها.
بالتوازي، هناك العنصريّة التي تحوي كراهيّة، لكنها لا تتجلى فقط بضرب اللاجئين "السُمر" على الحدود وتعريتهم في بعض الأحيان ودفعهم نحو حتفهم، بل بالقرار السياسي، الذي يمنع فئة ما من الدخول إلى الأراضي "الآمنة"، وتحويل رجل الشرطة إلى ضابط مسؤول عمن ينجو ولا ينجو. الكراهية هنا شأن ثانوي، أمام العنصرية فهي الأخطر حين تكون مفروضة بالقانون، والأهم، ذات شكل مؤسساتي على أساسه يتم تقسيم البشر، وتوزيع الحق بالحياة بينهم على أساس لونهم.
لا نحاول هنا التذكير بالتعريفات النظرية والاختلاف بينها، لكن الصورة من وجهة نظر مشاهد أوروبي، تلعب دوراً سياسياً، يعكس أبسط التعريفات السياسية، وهي التفريق بين الصديق والعدو؛ الصديق، نظيف، أنيق، مأساته تمس من يشاهد، أما العدو، فمتسخ، ثيابه غير أنيقة، هناك شك حول مأساته، وهذا ما يفسر لاحقاً، أننا إلى الآن لم نر صور ضحايا غارقين بدمائهم في أوكرانيا، هم "أصدقاء"، وكرامة أجسادهم الميتة محفوظة، أما اللاجئ "الملوّن"، فبإمكاننا صناعة كاتالوغات للأطفال والموتى ضحايا العنف السياسي، مصنفين بحسب القوة التي تسببت بموتهم.
يمكن القول إننا نمتلك حق شتم الكارهين أو توعيتهم، ومقارنة أساليب تعاملهم مع اللاجئين حسب تقسيماتهم، أما العنصرية، تلك التي تصل إلى مرحلة تمارس فيها السلطة دوراً حيوياً في تحديد من يستحق الحياة، ومن يستحق الموت، فهي الأشد خطراً، والتي لا يكفي الشتم للوقوف بوجهها، كونها قراراً واعياً باستثناء فئة من البشر، وتعريضهم لمعاملة أقل من المواطنين، أو من "الأصدقاء"... الصورة هنا، إذن، أشد عمقاً من قول إن "الأوروبيين يفضلون اللاجئين البيض على الملونين"، بل هي علامة على عطب عميق في المركزية الأوروبيّة.
... تلك التي لا تستوعب في القرن العشرين كيف يمكن لأبيض أن يقتل أبيض، وهنا نفهم الإحالة إلى حرب عالمية ثالثة، هي حرب أركانها من قرّروا شكل السلام في العالم، وتقاسموا مسؤولية حفظ "الأمن والسلام" العالميين.
بالعودة إلى الصورة ومقارنة سلوك رجال الشرطة، بعيداً عن الكراهيّة والحرب الثقافية ضدها، ودهن الرصاص بشحم الخنزير لإطلاقه على المرتزقة الشيشان الذين يقاتلون إلى جانب روسيا؛ فإن العنصرية الأوروبيّة، خصوصاً تلك التي تحضر في المؤسسات وتمارس السياسات الحيويّة متلاعبة بحق الحياة، تطرح أسئلة على نفسها؛ أبيض يقتل أبيض؟ أي ليسوا متشددين إسلاميين ولا دواعش، والحرب ليست مذهبيّة، هي حرب "متحضرين"، والتي ستكشف مع الأيام، إلى أي حد قيم الحضارة موزعة بالتساوي، وإن كان حارس الحدود البولندية يأمر "السود" بالعودة إلى مؤخرة الطابور، إثر كراهيةٍ عمياء، فهو يكشف عمق العنصرية، وجدية مشكلة الكراهيّة، التي تفضل استخدام السمر والسود كدروع بشرية، وحياتهم أقل قيمة من أولئك "الأصدقاء"، ففي نهاية هذا الطابور قد تكون القوات الروسيّة، التي نظرياً لن تميز بين الألوان، حينها بالضبط، نريد أن نرى صورة للشرطي، وكيف سيتصرف.