وسط حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي خلفت أكثر من 21 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، انتشرت لقطات لصواريخ موجهة نحو القطاع، و"يهديها" الجندي الإسرائيلي حاييم غوزالي لمحمد حديد وابنتيه بيلا وجيجي، وهم من أصول فلسطينية وعرفوا بمواقفهم التي تنتصر لقضية شعبهم.
هذه الخطوة ليست جديدة على الإسرائيليين. الكثير من الصواريخ التي وجهت لقتل الفلسطينيين وقّعت بأسماء شخصيات عدة معروفة، بينها مغني الراب كانييه ويست الذي تلاحقه اتهامات معاداة الساميّة، لتتحول أدوات القتل إلى أدوات تهديد وتشفّ رمزيّة من كل من ينتقد كيان الاحتلال، وكأننا أمام شكل من أشكال الإغاظة هنا، فكلما انتقد أحدهم إسرائيل، ستقتل الأخيرة أطفالاً أكثر.
هذه الممارسات الاستفزازية يبررها الجيش الإسرائيلي عادة بأنها "فرديّة" و"لا تمثل أخلاقه". نشر الجيش الإسرائيلي، الشهر الماضي، صوراً لمجموعة من الصواريخ، دوّن عليها باللغة الإنكليزية أسماء مجموعة من الناشطين الأجانب والعرب الذين عُرفوا بانتقادهم المجازر التي يرتكبها بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، فيما رسم إلى جانب كل اسم قلباً. وحاول مارك ريجيف، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تبرير ذلك بالقول إن "بعض الجنود كانوا يحاولون أن يكونوا مضحكين أو مبدعين".
لكن الأكثر إثارة للجدل هو قيام الرئيس الإسرائيلي نفسه، إسحاق هرتسوغ، بتوقيع قذيفة مدفعية قبل إطلاقها باتجاه قطاع غزة، الأسبوع الماضي، بعبارة "أنا أعتمد عليك"، وهو محاط بالجنود المبتسمين.
أثارت هذه اللقطة موجة من الانتقادات بين الإسرائيليين أنفسهم، كونها لا تحمل سوى دعوة للانتقام الأعمى، خصوصاً أن إسحاق هرتسوغ يعلم أن الصاروخ سيصيب أطفالاً، فما المقصود بـ"أنا أعتمد عليك"؟ "أعتمد عليك لتدمير حماس مثلاً"؟ ثلاثة أشهر وإلى الآن لا انتصار إسرائيلياً ولا هزيمة لحركة حماس. ما الرسالة إذاً؟ "أعتمد عليك في إبادة غزة وأطفالها"؟ أيمكن لرئيس "دولة" أن يوقّع صاروخاً سيقتُل مدنيين ويدين نفسه بهذا الشكل؟ في حالة إسرائيل، الإجابة هي نعم.
الصواريخ هنا تحمل معنيين اثنين: الأول مجازي يتمثل في القدرة السياسية والرمزيّة لإسرائيل على استهداف كل من ينتقدها أو لا يقف إلى جانبها بشكل أعمى، كرئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي التي اتهمت بالسطو الأكاديمي، و"الفشل في الحد من معاداة الساميّة في حرم الجامعة"، ما اضطرها إلى الاستقالة من منصبها الثلاثاء.
كانت غاي تعرضت لهجوم شرس بسبب شهادتها في الكونغرس حول معاداة السامية خلال احتجاجات داعمة لغزة في الحرم الجامعي، وأوضحت غاي التي دخلت التاريخ كأول شخص أسود يتبوأ منصب رئيس جامعة هارفارد، في نص استقالتها، أنها تعرضت لتهديدات شخصية و"عداء عنصري". وأضافت: "تعرضت لانتقادات لاذعة بغيضة، وفي بعض الحالات عنصرية، عبر رسائل إلكترونية ومكالمات هاتفية معيبة. نحن ندين هذه الهجمات". ويأتي تنحيها بعدما دعمتها الهيئة الإدارية للمؤسسة عقب شهادتها في الكونغرس.
الصاروخ هنا مجازي وقادر على عبور القارات واستهداف "الجميع"، فكل من ليس مع إسرائيل، هو حكماً ضدها، وستناله من هذا الموقف أذيّة مهنية أو رمزية.
المعنى الثاني حرفي، فالقائمون على العمليات العسكرية يعرفون بدقة من تستهدف الصواريخ في غزة وكم عدد المدنيين الذين سيقتلون، بل يمتد الأمر إلى الخارج كما رأينا في الاغتيالات في دمشق والضاحية الجنوبيّة لبيروت. لكل واحد من "أعداء إسرائيل" صاروخ باسمه، وهذا بالضبط المرعب، هل نحن إذا أمام دولة أم عصابة تغتال كل من لا يقف معها؟
تأتي هذه اللقطات في ظل إصرار إسرائيل على أن هذه الحرب ليست فقط انتقاميّة، بل وجودية، وإن لم تنتصر بها فـ"لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في الشرق الأوسط". بالتالي، لا بد من الوقوف بشكل أعمى إلى جانب الجيش الإسرائيلي، لكن هل إفناء كل قطاع غزة هو النصر؟ وهل إفناء (كل) حركة حماس هو نصر؟ نسأل هنا ساخرين لأن الصواريخ تعبر القارات، والواضح أن أعداء "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" في كل مكان، فهل هناك صواريخ موقعة باسم كل من ارتدى كوفيّةً ورفع شعار "فلسطين حرّة"؟
أحد الانتقادات للّقطة التي أخذت لإسحاق هرتسوغ ظهر في صحيفة هآرتس، حيث كتبت الكاتبة الإسرائيلية نينا أخيتوف، الأربعاء: "لو أن إسرائيل أعلنت رسمياً أن هدف الحرب الحالية هو الانتقام، بالمعنى الأكثر سطحية وبدائية للكلمة، أي إلحاق الأذى بكل من يمثل حماس في نظرنا؟ أي جميع سكان غزة، بما في ذلك الأطفال الصغار، ربما يكون هناك مكان لصورة يوقع فيها الرئيس على قذيفة على وشك إحداث الدمار وقتل أشخاص ليسوا بالضرورة جزءاً من حماس". وأردفت بلهجة انتقادية: "من المفترض أن يكون رئيس إسرائيل رمزاً وطنياً غير حزبي، (المواطن رقم 1)، ومن المفترض أن يكون شخصية موحدة فوق السياسة". وقالت: "هذا هو السبب في أن صورة إسحاق هرتسوغ وهو يوقع على قذيفة، مزعجة للغاية. إنه يظهر مدى عمق تغلغل الشعبوية والقومية". وتساءلت: "أي حنكة سياسية تتجلى في التوقيع على ذخيرة فتاكة، والتي تمثل في نظر العالم أعظم خطيئة ترتكبها إسرائيل في هذه الحرب، زرع الدمار في غزة وقتل الأبرياء؟".
وهنا تبرز السخرية شديدة المأساويّة. إسرائيل لا تحارب "الشر الأعظم"، بل تقتل المدنيين، وعلى الرغم من التهديد الجدي بإدانة إسرائيل بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدوليّة، إلا أن القصف والعمليات العسكرية لم تتوقف، بل يمكن القول إن الصورة نفسها يمكن أن تصبح دليلاً في محكمة العدل الدولية على جريمة حرب اقترفها رئيس إسرائيل الذي يشارك هنا شخصياً في جرم الإبادة والتحريض عليها.