جاء استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة، في 11 مايو/أيار الماضي، ليؤكد أن جميع المبادئ والقوانين الدولية بشأن حرية عمل وسائل الإعلام في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة لا تكفي لحماية الصحافيين. هي مجرد بروتوكولات غير ملزمة بالنسبة إلى الأطراف المتحاربة التي لا يشغلها في ذروة البحث عن نشوة الانتصار، المغمسة بالدم والبارود، سقوط صحافي عوّل أكثر ممّا ينبغي على حصانة هشة لم تردّ عنه أعين القناصة والجنود المكلفين طمس الحقيقة.
وبالتالي، بات واضحاً أن المناخ العام في مناطق الحروب لا يخدم ظروف ممارسة مهنة الصحافة ومتطلباتها الأساسية. فمن ناحية، هناك أخطار الاستهداف المباشر من دون أي ذريعة أو مبرر، على اعتبار أن لكل حرب ثمناً، ولا بد من وقوع ضحايا على جبهات عدة ومن فئات مختلفة، سواء في صفوف المدنيين أو الفرق الطبية والبعثات الصحافية. ومن ناحية أخرى، هناك أسباب بدرجة أقل تُعزى إلى عدم تأهيل الصحافيين للحفاظ على الحد الأدنى من السلامة الشخصية في أثناء تغطية الحروب، وفي هذا المقام أرى أنّ من المهم تسليط الضوء على دور المؤسسات الإعلامية في حماية صحافييها والحد من تعريض حياتهم للخطر.
في منطقتنا العربية، تعتبر تجربة شبكة الجزيرة الإعلامية في تغطية الحروب الأكثر ثراءً. سأتناول باقتضاب كيف تعاملت الشبكة مع مراسليها في الميدان، مع الإشارة إلى بعض جوانب القصور في هذه التجربة التي طغت عليها الرغبة في تحقيق السبق واستعراض شبكة المراسلين على حساب أمنهم الشخصي. فمنذ عام 2003، لقي 12 صحافياً في قناة الجزيرة مصرعهم في أثناء تغطيتهم لحروب متفرقة في العراق وليبيا وسورية وفلسطين واليمن، أي ما يعادل مقتل صحافي على الأقل كل عام. ولكن قبل الخوض في هذا الأمر، أود التشديد أولاً على عدم مشروعية الهجمات التي تستهدف الكوادر الصحافية، والتذكير بأن ذلك يتناقض مع الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية الداعية إلى حماية الصحافيين وصيانة حرية عمل وسائل الإعلام في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة.
كذلك يبدو من المفيد شرح معنى السبق الصحافي، قبل استعراض قائمة شهداء الميدان الذين دفعوا بشكل أو بآخر ضريبة ما بدا وكأنه سباق نحو الموت. تخبرنا معاجم المصطلحات الإعلامية بأن السبق هو خبر أو مقابلة أو صورة تنفرد بها مؤسسة إعلامية دون غيرها، فيمنحها ذلك تميزاً، كأن يحظى مراسل صحافي بتصريح أو مقابلة خاصة مع شخصية محورية تكون على قدر من الإثارة والأهمية، مثل المقابلة التي أجراها الكاتب والصحافي الفلسطيني عبد الباري عطوان عام 1996 مع زعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن.
ومن صور السبق الصحافي أيضاً وصول مراسل دون غيره إلى مناطق متقدمة في ما يتعلق بتغطية الحروب، وعادة ما تكون مناطق خطرة وحساسة، ومثال على ذلك بثّ الصحافي رسالته قرب مدرعات أو قاذفات صواريخ، وهي صورة تكررت كثيراً على شاشة الجزيرة في أثناء تغطية مراسليها للحرب السورية.
ومن خلال نظرة سريعة على قائمة شهداء "الجزيرة" الـ 12، نجد أن سبعة منهم قتلوا في سورية في أثناء تغطية الحرب، وهم: محمد المسالمة، وحسين عباس، ومحمد القاسم، ومهران الديري، ومحمد الأصفر، وزكريا إبراهيم، وإبراهيم العمر، كانوا يعملون مراسلين متعاونين مع "الجزيرة"، أي ليسوا موظفين معتمدين، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن مسؤولية المؤسسة في الحفاظ على حياة الصحافيين المتعاونين ومعاملتهم على قدم المساواة مع الموظفين النظاميين من حيث التدريب وتوفير معدات الوقاية والخضوع لدورات تأهلهم للعمل في مناطق الحروب.
قد يتيح تقدم المراسل عند خطوط النار فرصة التقاط صور حصرية لاستهداف قاعدة عسكرية أو برج مراقبة أو أسر جنود على حين غرة، وهو أمر تحبذه المؤسسات الإعلامية، نظراً لتحقيقه شرطَي السبق والانتشار (تداول صور المؤسسة في وكالات وقنوات إعلامية أخرى).
ربما كان ذلك ناجعاً في عصر الإعلام التقليدي، قبل ظهور الإعلام البديل خلال السنوات الأخيرة الذي أتاح لرواد مواقع التواصل الاجتماعي فرصة المشاركة في صناعة الحدث باستخدام هواتفهم النقالة، من دون الحاجة إلى الخضوع لدورات تدريبية تصقل مهاراتهم وتعلمهم كيفية الوقوف أمام الكاميرا. لمسنا ذلك في تداول وكالات الأنباء العالمية صوراً رديئة التقطت بواسطة الهاتف، مثل صور اللحظات الأولى للقبض على الزعيم الليبي معمر القذافي، وكذلك مشاهد استهداف المباني السكنية في قطاع غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، في أثناء العدوان الأخير على القطاع العام الماضي.
كل هذه الصور كان مصدرها وأبطالها شباناً عاديين لا علاقة لهم بمهنة الصحافة، الأمر الذي سبّب تراجع فكرة السبق، وبات هذا المصطلح ينعطف على أشياء أخرى أبعد ما تكون عن مفردات وأدوات الإعلام التقليدي، وربما أضحى التنافس بين القنوات الإخبارية في كيفية الاختلاف نظراً لتشابه المحتوى، أو التركيز أكثر على فكرة انتشار واتساع شبكة المراسلين، وهو بعدٌ أرى أنه مرتبط مباشرة بميزانية المؤسسة لا بمهنيتها. ومن أمثلة ذلك، حرص قناة الجزيرة في كل تغطية إخبارية واسعة على تقسيم شاشتها إلى عدة نوافذ لاستعراض شبكة مراسليها.
يمكن تفهم ذلك لو اقتصر الأمر على أحداث وفعاليات سلمية، مثل تغطية الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الدول الديمقراطية، ولكن أن يحدث ذلك في تغطية الحروب، أمر غير مفهوم، نظراً لما يحمله من أخطار تعرّض حياة الصحافيين للخطر.
أثار انتباهي أخيراً ظهور مراسل "الجزيرة" في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلياس كرّام وهو يعلّق على استشهاد زميلته شيرين أبو عاقلة، حين وصف في ما بدا زلة تحت وطأة المشاعر المضطربة، كيف ناشده أبناؤه أن يعود إلى البيت لخشيتهم عليه من الموت عندما كان يغطي أحداث الحرب في أوكرانيا قبل نحو شهرين، وقال حرفياً والدموع تملأ عينيه: "أحد الأسباب التي دفعتني إلى أن أترك الميدان بكاء أطفالي، كانوا يقولون لي: ارجع يا أبي، لا نريد أن تموت. وعندما عدت إلى البيت أخبرتني زوجتي بأنها لا تصدق أني عدت حياً".
هذا المشهد الذي تجلى فيه الصحافي الإنسان، لا ذاك المراسل الذي يقف بوجه فاتر أمام الكاميرا، جعلني أتساءل عن مدى الإلزام في إيفاد الصحافيين لتغطية الحروب، وإلى أي حد يمكن الصحافي القول ببساطة: "لا أريد الذهاب إلى الموت، لأن لدي أطفالاً".
بالعودة إلى تغطية فريق الجزيرة للحرب الروسية على أوكرانيا، لم ألحظ ما يستحق عناء السفر في التغطية الميدانية، إذ تواجد معظم المراسلين في المناطق الحدودية، وما قدموه من تلك المناطق يغلب عليه الطابع التحليلي، ما يعني أنه كان بالإمكان أن يظهر المراسل من استوديو مغلق من دون تعريض حياته للخطر.
أما القصة الأكثر إيلاماً لي شخصياً، فهي مأساة صديقي وزميلي مراسل "الجزيرة" في درعا محمد نور الذي التقيته في الدوحة نهاية عام 2016، حين كنت أعمل منتج أخبار في قناة الجزيرة، حيث تلقينا دورات تدريبية مشتركة. كان محمد، وهو أب لطفل وحيد، مراسلاً مقداماً غطى العديد من الأحداث في الجنوب السوري خلال الثورة. بعد أسابيع من عودته إلى سورية، تبلغنا خبر إصابته جراء غارة جوية استهدفته في أثناء تغطيته الغارات الروسية المكثفة، ما أدى إلى بتر ذراعه. ولم تكن تلك إصابته الأولى، إذ كان قد تعرض لإطلاق نار في بلدة الشيخ مسكين في ريف درعا عام 2014.
أذكر في رسالاته الصحافية كيف كان يصوّب كاميرته في اتجاه الطائرات الروسية، وكيف أنه كان لا يفصله عن مدرعات الجيش السوري سوى جدار منزل مدمر أو هضبة ترابية. تساءلت حينها، ولا يزال السؤال ماثلاً: ما الرسالة التي تريد أن تقدمها "الجزيرة" من خلال بثّ هذه الصور، وما مدى مسؤوليتها عن عدم تمكن محمد من احتضان طفله مجدداً بكلتا يديه؟