"شعلة الحبّ" لسارا دوسا: فضولٌ أقوى من الخوف

06 مارس 2023
سارا دوسا: توثيق حبٍّ بين عاشقين والبراكين (فرايزر هاريسون/Getty)
+ الخط -

 

غالباً ما تتّسم الأفلام الوثائقية، المُنبرية للطبيعة أو لعلوم الحياة، بطابع الريبورتاج الزاخر بالتفاصيل، والمفتِقر إلى مقوّمات الشخصانية والطموح الفني.

"شعلة الحبّ"، المرشّح لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي (النسخة الـ95، المُقامة في 12 مارس/ آذار 2023)، وأحد أفضل الأعمال الوثائقية في العام الماضي، يمثّل الاستثناء في هذا الإطار، لاعتباراتٍ عدّة، أهمّها بصمة مخرجته سارا دوسا، الواضحة في اختيارات الإخراج، حبكةً وإيقاعاً ودراماتورجيا، وارتكازه ليس فقط على مادة أرشيفية، زاخرة بالمعطيات والصُّوَر عن علم البراكين، بل على رؤية الوجود، بعيون شخصيّتين قويّتين، تتميّزان بذاتية طاغية، وسُمك تراجيدي، وحضور روحاني مؤثّر، بالإضافة إلى رهان إعادة صوغ العالم المميِّز لكلّ الأعمال الوثائقية الجيدة، بدل التركيز على موضوعٍ بنظرةٍ علمية مجرّدة من الأحاسيس. رهانٌ دفع دوسا إلى موقَعة فيلمها الطويل الرابع في مفترق طرق، بين فيلم الأرشيف والمونتاج المتأمّل صنفاً، وقصة حبّ، ووثائقي العلوم نوعاً.

"في عالمٍ بارد، تأخذ الساعات كلّها في التجمّد. تشرق الشمس، وتحتجب بين العواصف الثلجية، التي تمسح الإمكانات والخطى كلّها. في هذا العالم، نمت شعلة. ووسط هذه الشعلة، وجد عاشقان بيتاً لهما". بهذه الجملة، التي تؤدّيها المخرجة ميراندا جولاي، بصوتها المبحوح المميّز، يفتتح الفيلم حكاية الزوجين كاتيا وموريس كرافت، عالِمَي البراكين الأشهر في القرن الـ20، لتوثيقهما، في 25 عاماً، مئات الرحلات التي قادتهما إلى أنحاء العالم، وثورة عشرات البراكين. هما أسهما -بالأرشيف العلمي الهائل (مؤلّفات وعيّنات وصُور وأفلام) الذي جمعاه- في تطوّر هذا العلم، ومعرفة أفضل عن ظاهرة طبيعية، خطرة وساحرة في آن واحد.

بعد جينريك البداية -الذي يقدّم، بصُور خاطفة، عالم الزوجين كرافت، ولقطات من برامج تلفزيونية استضافتهما- يعلن تعليق جولاي هذه الجملة الصادمة، على خلفية انشغال كاتيا بابتسامتها وحمرة وجنتيها (ما يذكّر ببراءة أودري هيبّورن)، وموريس بشعره الكثيف والمجعّد، ووجهه الممتلئ، وخفّة دمه (المحيلة إلى جون سي. رايلي)، بإعداد الكاميرات لالتقاط انفجار بركاني وشيك: "هذا موريس... وهذه كاتيا... إنّه الثاني من يونيو 1991... غداً ستكون آخر أيامهما". باختيار الإعلان عن مصير الزوجين كرافت، منذ البداية، تحيّد دوسا سلك الإثارة السهلة، مراهنةً بالأحرى على إشعال فتيل يضعنا في قلب حياة تصارع العناصر الطبيعية، بما فيها الزمن، لتكوين إرث عظيمٍ وفلسفة يشكلان نمط حياتهما نفسه، تجلّياً مُطلقاً لها، يُلخّصها قول تشارلز بوكوفسكي: "اعثُرْ على ما تحبّ ودعه يقتلك".

مجازفة كاتيا وموريس كرافت بملاحقة البراكين لتوثيقها، رغم علمهما بأنّهما يُمكن أن يقضيا نحبهما في أي لحظة، تبدو لوهلة أولى ضرباً من الانتحار. لكنْ، مع تقدّم الفيلم، واكتشاف أبعاد فلسفية وشعرية لسعيهما، يتوضّح أنّ رؤيتهما تنطوي على قدر كبير من الحبّ والسخاء.

يغزل الوثائقي، بنوع من الغموض التخييلي الجذّاب، تخمينات حول ظروف لقاء كاتيا وموريس، في منتصف ستينيات القرن الـ20، جاعلاً من حبّ استطلاع البراكين مشتركاً جمعهما، بشكل شبه قدري ومستشرف لمسارهما العاطفي والعلمي المتّقد، والمشتعل بالحبّ وفضول الاكتشاف. شعور خيبة الأمل عند جيلهما، الذي خلقته أحوال العالم السياسية والاجتماعية المضطربة آنذاك، دافع أساسي للجوئهما إلى الانشغال بألغاز الطبيعة عن عجزهما عن تغيير العالم. مثل متسلّقي القمم الجبلية الشاهقة، كانا يبحثان عن سعي عبثي ويوتوبي المعالم، يرتقي بهما من مستنقعات الإنسانية.

مثلما تسجل بيانات التخطيط الكهربائي نبضات القلب البشري، ترصد إبرة السيسموغراف خفقات الأرض، التي تُنبئ بقرب الانفجار البركاني. لعلّ الخيار الجمالي، الذي يصنع قوة الفيلم، اندراجه في الحيز الضيق لهذا المشترك الجذاب، حيث تلتقي، رغم الفارق البيّن في السلّم، رومانسية طافحةٌ لحبّ محموم، يجمع كائنين ضئيلين وهشّين، يتساءلان عن مكانتهما في العالم، وظاهرة هائلة وخطرة، يندمج فيها مزيج من المعادن والحرارة والغازات والزمن، لتغيير وجه الكرة الأرضية. رغم تسلّحهما بالعمل المجدّ والفضول.

بالإضافة إلى عتاد الآلات والتجهيزات لمواجهة خطر البراكين، فإنّ السلاح الأساسي للزوجين كرافت هو الحبّ المجنون، الذي يجمعهما: كاتيا جيو ـ كيميائية، وموريس عالِم جيولوجيا. كاتيا تلتقط الصُّور وتؤلّف الكتب، وموريس يصوّر الأفلام ويسوّق لها في وسائل الإعلام. كاتيا حذرة إلى حدّ ما، وموريس مندفع.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تنسج خيوط الحكي، بفضل قرار الانزياح عن جمود الدراسات الأكاديمية الجافة، ومقاربة الموضوع من خلال ذاتية الزوجين، متوازياتٍ مثيرة للاهتمام، تنظر إلى البركان ككائن حيّ، له شخصيته الخاصة، وإيقاع تنفسه، ومزاجية فوراته التي تحاكي نوبات الغضب البشري. لحظات فورة اللابة، وانسيابها من براكين، مثل "نيراغانغو" في زائير، عام 1974، تبرع عدسات كرافت في التقاطها من كل الزوايا، وبمختلف الأبعاد، ما يجعل الفيلم فسيفساء متنوّعة لمناظر طبيعية، جميلة للغاية.

مع حلول القسم الثاني من "شعلة الحبّ"، تتواتر إشارات تعدّ المشاهد لحتمية لحظة انهيار التوازن الهشّ بين الرغبة في الاقتراب لرؤية أوضح، وهاجس تلافي السقوط في الهاوية، من خلال جمل موريس المغرقة في التراجيديا، عن تفضيله وجوداً قصيراً وحافلاً على حياة طويلة ومملّة. كما تتخلّل الفيلم قراءات ملهمة ومؤثّرة من يومياتٍ كتبتها كاتيا في البعثات العلمية، حيث تتقاسم مشاعرها إزاء الخطر المحدق، بتعابير مثل: "الفضول أقوى من الخوف". قراءاتٌ توردها سارا دوسا على خلفية لحظات تأمّل واندماج في أجواء مراقبة الظاهرة البركانية، يعزّزها الاشتغال الرائع على المؤثّرات الصوتية، في مشاهد تدحرج الجلاميد على السفوح، أو زمجرة الفوهات المتفجرة بالغازات والغبار الصخري، وشريط الموسيقى الأصلية لنيكولا غودان (أحد قط)، المؤثّر بمزجه بين نوتات رومانسية، وأخرى ذات طابع مستقبلي، تلائم مناخ الفيلم.

عكس الفكرة السائدة، يوضح موريس أنّ البراكين "الحمراء"، الفائرة بالصهارة المنسالة وفق مسار متوقع (مثل جداول الأنهار)، أقلّ خطراً من البراكين "الرمادية"، الملقّبة بـ"القاتلة" (على غرار ديل رويز في كولومبيا، عام 1985)، التي تهدّد بالانفجار وقذف سيول غازية وصخور وأتربة، تبلغ عشرات الكيلومترات، بسرعة تصل إلى 700 كيلومتر في الساعة، ما يودي بحياة آلاف السكان المقيمين في محيطها. تحدّي توقّع توقيت انفجارات البراكين الرمادية وشدّتها، شكّل هاجساً شغل الزوجين كرافت بشكل خاص في عقدهما الأخير، وقادهما إلى التقاط صُور عزّزت فهم هذه الظاهرة، ووعياً أفضل لدى الحكومات بضرورة إخلاء محيط البراكين، تجنّباً للخسائر في الأرواح البشرية.

يطرح "شعلة الحبّ" أسئلة وجودية، مثل: "هل نغدو أكثر عقلانية مع تقدّم العمر، أم العكس؟"، والتساؤل عن المفارقة بين الحيّز المحدود للحياة البشرية، وسلّم الزمن الجيولوجي مترامي الأبعاد، فضلاً عن ذلك السعي البدني في مواجهة عبثية الوجود، الذي صنع تحفاً سينمائية، كمعظم أفلام فرنر هرتزوغ، و"القيامة الآن" (1979) لفرنسيس فورد كوبولا، و"الساحر" (1977) لوليام فريدكن.

"شعلة الحبّ" ليس مجرّد فيلم أرشيف عن البراكين، بل نوع من مثلث حبّ بين هذه الأخيرة وموريس وكاتيا كرافت. رسالة حبّ في ذكرى باحثَين، فضّلا وجوداً كثيفاً ذا معنى، على حياة طويلةٍ ورتيبة، تقبض على روح التضحية التي تنطوي عليها اختيارات عالِمَين، هَامَا في موضوع دراستهما، مثلما عَشق كلّ واحد منهما الآخر، وحافظا على شعلة الحبّ متّقدة، حتى النهاية.

المساهمون