هذا تقليدٌ سنوي، تعتاده صحفٌ ومجلات، مطبوعة وإلكترونية، ومؤسّسات تلفزيونية مختلفة، منذ سنين مديدة: استعادة الأبرز سينمائياً في عامٍ ينتهي، ومحاولة قراءته عشية بدء عامٍ جديد، أو في مطلعه. والقراءة، إذ تمزج النقديّ بالانفعاليّ بعيداً عن المهنة، ولو قليلاً، ترتكز على الذاتي ـ الشخصي أولاً، ما يؤكّد ابتعاد النصّ، المكتوب في مناسبةٍ كهذه، عن المهنيّ البحت، رغم أنّ في المهنيّ نفسه شيئاً من الذاتي ـ الشخصي، معطوفاً على الانفعالي المُغلّف كلّه بالنقديّ. فالنقد أساس كلّ نصٍّ يعاين فيلماً أو يتابع قضية، ويتناول شخصية أو يقرأ حالة، في السينما العربية والأجنبية، أي تلك المُنجزة في الدول كلّها خارج الخريطة العربية.
تقليدٌ يُراد له تجديد
التقليد السنوي هذا يُفترض به، أحياناً أو ربما دائماً، ابتكار جديدٍ في استعادة الماضي في لحظةٍ راهنةٍ، تودّع عاماً وتستقبل آخر، مع تمنّيات، معتادة بدورها، بأنْ يكون المقبل أفضل من المنتهي، في المناحي كلّها لليوميّ أساساً، والمهنيّ تالياً.
لذا، يُحبَّذ لنصِّ الاستعادة أنْ يتحرّر من روتينٍ يؤرّخ أبرز الأحداث (وفقاً لما يعتبره الناقد/الناقدة أبرز الأحداث، طبعاً، مع ضرورة التنبّه إلى ضرورة وجود إجماعٍ على ذلك أيضاً)، ويختار "أفضل" الأفلام (الأفضل يبقى رأياً ـ شعوراً خاصّين بالناقد/الناقدة)، ويتناول أهمّ التحدّيات والمسائل والفضائح، ويوثِّق راحلين وراحلات في كتاباتٍ، تبقى أسيرة التأريخ والأرشفة، غالباً.
يُحبَّذ لنصّ الاستعادة، المتحرّر من هذا كلّه، أنْ ينغمس أكثر في الذاتي ـ الشخصي المنفتح، قدر الإمكان، على العام. أي أنْ يكون للناقد حضورٌ ذاتي ـ شخصي أكبر، يُتيح قراءة ـ مُشاهدة مختلفة، ولو قليلاً، عن مفردات مهنيّة، فالذاتي في المهنة فاعلٌ، شرط أنْ يحافظ على قواعد النقد، كي لا يسقط النقد في المزاج الشخصي البحت، الذي ينبثق من سوء علاقة أو سويّتها مع مخرج ـ مخرجة، ومع شخصية ـ قضية ـ حالة.
لذا، في وداع عامٍ واستقبال آخر، يُمكن لنصّ الاستعادة أنْ يُقلِّل من سطوة المهنة، من دون تغييبها كلّياً، ويُعلي من قول الذاتي ـ الشخصي، من دون غلبة مطلقة لهما. هذا تمرينٌ على كتابةٍ، توازن بين لحظة وداع ـ استقبال، بما فيها من انفعال وعاطفة متأتّيين من تجربةٍ في المُشاهدة والعمل والتواصل والاطّلاع، حاصلةٌ (التجربة) في عامٍ يمضي؛ وقراءة الحاصل، في لحظةٍ كهذه، المنبثقة من مدى تأثير الحاصل في الذات، انفعالاً وتفكيراً وتأمّلات.
استعادة عامٍ سينمائي منتهٍ
هذه استعادة تفاصيل، فيها من الذاتي ـ الشخصي ما يتساوى والجماعي ـ العام، أو هذا ما تحاول الاستعادة فعله، على الأقلّ:
(*) تجربة المُشاركة في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، في الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"، مع بريجيت أوشاي (ناشطة سينمائية أسترالية) وسكاي هوبِنْكا (من Ho-Chunk Nation) مُهمّة لي، سينمائياً وشخصياً ونقدياً. تنظيم تلك الدورة متزامنٌ مع "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023). فلسطينيون وفلسطينيات، إلى عربٍ وأجانب، مُقيمون في هولندا وبعض أوروبا، يتضامون مع أبناء قطاع غزّة وبناته في مواجهتهم حرباً إسرائيلية جديدة تُشنّ عليهم/عليهنّ، كما على أبناء الضفة الغربية وبناتها. نزاعٌ يحدث، فأسلوب التضامن مُسيء، في جانبٍ منه، إلى الحاصل في فلسطين. لكنّ وعياً يتمتّع به مشاركون ومشاركات في لجان تحكيم، وفائزون وفائزات، يقول كلاماً مقبولاً وواقعياً وصادقاً.
التجربة تُتيح اكتشافاً جديداً لآلية عمل لجنة تحكيم، بعد مشاركات سابقة في مهرجانات مختلفة، معظمها لبناني وعربي. إيجاد منحى لنقاشٍ يُفترض به أنْ ينتهي باختيار فيلمٍ واحدٍ من بين 15 لمنحه الجائزة المالية الوحيدة (5 آلاف يورو)، وآخر لمنحه تنويهاً. نقاش مختصر لأنّه مُكثّف، وتحليلٌ لا ثرثرة فيه ولا إطالة، لأنّه يبغي اختياراً، والاختيار صعبٌ غالباً، لكنّه حاصلٌ بالتأكيد.
(*) "طوفان الأقصى" نفسه يحرّض على استعادة سينمائية، من نوع آخر. صُور آنيّة كثيرة، معظمها متحرّك، تقول وقائع، والجنون الإسرائيلي غير مسبوق بوحشيّته المؤدّية، بمرتكبيها من جنود وضباط ومستوطِنين ومستوطِنات وغيرهم، إلى متاهاتٍ وكوابيس، تلحق بأفعال همجيّة يرتكبونها كلّ لحظة. استعادة تُذكِّر بأفلامٍ فلسطينية أولاً، مُنبثقة من وجع وحالة وعلاقات وحكايات وتاريخ وأرضٍ وتفاصيل عيش، وبأفلامٍ عربية وأجنبية، معظمها يناضل من أجل فردٍ وقضية، وغالبيتها الساحقة تحتاج إلى نقاشٍ نقدي عمليّ، يبتعد عن كلّ انفعال وعاطفة والتزام أخلاقي وإنساني بفلسطين وناسها وقضيتها.
هذا كلّه يُتيح عودةً إلى زمن المُشاهدة الأولى، وإلى تفاصيل ذاتية ـ شخصية ترتبط بمناخٍ عام في بيئة وثقافة وتربية. استعادة تُمرِّن على كتابةٍ، تُكمِل كتابة سابقة أو تبلورها، أو ربما تُبدِّلها أو تُبدِّل شيئاً منها. فالمُشاهدات اللاحقة تختلف ظروفها عن تلك المحيطة بالمُشاهدة الأولى، وللقراءات والمتابعات والمُشاهدات، اللاحقة على المُشاهدة الأولى، دورٌ في مزيد من نضج. كتابة أخرى ربما تتناقض، كلّياً أو جزئياً، مع الكتابة السابقة، وهذا طبيعي بعد مرور وقتٍ، بكلّ ما في الوقت من تغييرات وتحدّيات ومتابعات وتأثّرات. وربما لن تتناقض.
"طوفان الأقصى" يُساهم في استعادةٍ تُشبه، أحياناً، اكتشافاً أو إعادة اكتشاف. هذا جميل وممتع، رغم الكمّ الهائل، غير الممكن وصفه أصلاً، من البؤس والخراب والقهر، في قطاع غزّة والضفة الغربية، وفي أنحاء مختلفة من العالمين العربي والغربي.
علاقة مرتبكة بعروضٍ تجارية
(*) أيُعقل لناقدٍ ألّا يُشاهد أفلاماً، معروضة تجارياً في مدينةٍ يُقيم فيها منذ زمنٍ بعيد، مع أنّ لتلك الأفلام سُمعةً، تتفاوت بين الجيّد والباهر من جهة، والعادي المقبولة مُشاهدته من جهة أخرى؟ أهذا كسلٌ مهنيّ، أم نفورٌ من صالاتٍ بيروتية، تُفقِدُ المرء متعة المُشاهدة التقليدية، التي يدافع عنها كثيرون وكثيرات، رغم كلّ تطوّر تقني فني، يمنح المهتمّ والمهتمّة وسائل أخرى للمُشاهدة، تحتاج بدورها إلى نقاشٍ؟ أهذا خروجٌ عن مألوف مهنيّ، أم رغبة في راحةٍ من ضغطٍ، يُمارَس، ولو قليلاً، في مهرجاناتٍ، بعضها جاذب للمُشاهدة ومتعتها، وبعضها الآخر يتطلّب مشاهدةً لأنّ هناك مشاركة في لجنة تحكيم؟
أعترف بأنّ أفلاماً عدّة غير مُشاهِدٍ إياها في عروضها التجارية اللبنانية. هذا مزعجٌ شخصياً، وغير مهنيّ. في المهنة، يُعوَّض هذا بقراءات نقدية لزملاء وزميلات، فتكون المُشاهدة لاحقة، ومتحرّرة من ضغط المهنة. المزعج شخصياً يزول، لأنّ المُشاهدة حاصلةٌ، ولو بعد حين. مهرجانات أحضر دوراتها المُقامة عام 2023: برلين (الدورة الـ73، بين 16 و26 فبراير/شباط)، و"مالمو للسينما العربية" (الدورة الـ13، بين 28 إبريل/نيسان و4 مايو/أيار)، و"طرابلس للأفلام" في شمال لبنان (الدورة الـ10، بين 21 و29 سبتمبر/أيلول)، وأمستردام الوثائقي (الدورة الـ36)، والجونة (الدورة الـ6، بين 14 و21 ديسمبر/كانون الأول)، والأخير يُثير سجالاً بسبب تأجيلين قبل دورة "استثنائية"؛ فتُتاح لي مشاهدة أفلامٍ، وإنْ أقلّ من اللازم، مهنياً وثقافياً وشخصياً، لكنّها مُثيرة لمتعة، ودافع إلى تأمّل وتفكير، ومحرِّضة على نقاش مع أصدقاء في سهراتٍ يومية.
هذا قليلٌ. المُشاهدة في عام 2023 أقلّ من تلك الحاصلة في أعوامٍ سابقة، أشاهِدُ فيها أفلاماً أكثر. أيُمكن تعويض بعض ذلك عام 2024؟
(*) المهرجانات نفسها، كما تلك الحاصلة في أمكنةٍ مختلفة، منتمية إلى فئة أولى أو إلى غيرها من الفئات، تحثّ على نقاشٍ، تُعطّله شتيمة ناقدٍ لبناني، يدافع عن مهرجاناتٍ من دون أدنى رغبةٍ في التنبّه إلى أي خطأ فيها (بقرار واعٍ طبعاً، ولأسباب شخصية بحتة)، ويُكمِل شتيمته بأخرى إنْ يكتب ناقدٌ آخر قراءة في أخطاءٍ متكرّرة، إلى حدّ الملل لشدّة تفاهتها، في بعض تلك المهرجانات. شتيمة تُقابل دعوةً إلى نقاشٍ، يتناول واقع المهرجانات وأفق غدها، ويرغب في تحليلٍ وحوار، وإنْ يكن الحوار غير مباشر. شتيمة تليق بمطلقها، لا أكثر. شتيمة تؤدّي إلى وأد صداقةٍ، مرتبكة أصلاً بسبب صدامات عدّة، منبثقة من عدم توافقٍ على مسائل وتصرّفات، وعدم التوافق ينتهي بقطيعةٍ، ستكون مريحة لناقدٍ يدعو إلى نقاشٍ، فتُقابَل الدعوةُ بشتيمة ناقدٍ آخر.
هذا مُتداول سابقاً. "خبريات" كثيرة من سنواتٍ ماضية معروفة، ومتورّطون فيها أحياء إلى الآن. هذا مستمرّ، رغم كلّ التطوّر المعروف، في الجوانب كلّها في الحياة اليومية، والفاشية جزءٌ من تلك الجوانب، كما العنصرية التي يتباهى بها عربٌ عديدون، بعضهم يعمل في مهنة الصحافة والنقد السينمائيين.
(*) الملاحظة الأخيرة غير سينمائية. قرار ببقاء شبه دائم في المنزل، في فترة المساء تحديداً، يصنع علاقة، غير مُريحة إجمالاً، لكنّها مسلّية أحياناً عدّة، مع أعمال تلفزيونية، يغلب عليها الأجنبي، وبعضها مُنتَج في أعوامٍ سابقة. إعادة بثّ كلّ حلقة أكثر من 3 ـ 4 مرّات يومياً، لأكثر من مسلسل، مملّة للغاية. هذا يدفع إلى بحثٍ عن أفلامٍ، غير تجارية وغير سطحية وغير مملّة (متوافرة في محطات عدّة، ومشاهدتها تمريرٌ لوقتٍ، وكسبٌ لشرودٍ مُريح)، تبثّها قنوات متخصّصة بالسينما، وبعضها يعرض أفلاماً حديثة الإنتاج تقريباً، ولها صيتٌ رائع، والتأخّر في مشاهدتها دافعٌ إلى اختيارها تلفزيونياً.
هذا يُذكّر بأول إغلاق عام، إثر تفشّي كورونا، في لبنان تحديداً، في فبراير/شباط ـ مارس/آذار 2020. التقوقع في المنزل، حينها، تخفّ حدّته قليلاً مع متابعة يومية لأعمال تلفزيونية، تجعلني أكتشف بهتاناً وخللاً وقرفاً في نتاجات لبنانية، أسمع عنها كثيراً من أصدقاء وصديقات "متورّطين" في هذا النوع من الإنتاج "الفني".
فهل ينبثق البقاء في المنزل، هذه المرّة، من شعورٍ بأنّ كورونا جديدة متفشّية حالياً في مدينةٍ (بيروت) مُصابة بأعطابٍ، تحتاج المدينة بسببها إلى ولادة جديدة فعلياً، لا إلى تأهيل وإصلاح، غير كافيين البتّة في إنعاشها؟