في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من كلّ عام، تصدر أفلام "هالوين" المُشبعة بالقتل الوحشي والدم والرعب، كـ Texas Chainsaw Massacre لديفيد بلو غارسيا (2022، الترجمة الحرفية للعنوان: "مذبحة تكساس بالمنشار")، الذي يبدأ برحلةٍ لاكتشاف المكان، ومع تقدّم الأحداث ـ التي ترصدها كاميرا محمولة، تُطارد الضحايا ليلاً تحت المطر ـ تُقدَّم شخصيات وافدة، وأخرى متجذّرة في المكان، تحمل بصمات الفيلم في جلدها ولسانها. بصمات الجنوب، وتاريخ أميركا في المعمار والعَلم والحقل والمعجم العنصري.
هكذا يصير الرعب مُتجذّراً في المكان (تكساس)، وتصير مقاومة تحديث الدين مُبرَّرة في وجه كاهن أميركي يزور الفاتيكان (The Rite، "طقوس"، مايكل هافستروم، 2011)، ويُسمع أنتوني هوبكينز يُردِّد: "ما إنْ نذكر الشيطان، حتى يأتي". حين يرى الكاهن فتاةً تختنق، يجْمع يديه ويُصلّي. هذه رؤية لاهوتية للعالم. كلّ المشاكل تُحَلّ بالصلاة والدعاء. الحكاية هنا متجذّرة، ومكان استنباتها وتربته ملائمان لوجهة النظر التي تخترقها.
بحسب الكاهن، يرتكب البشرُ الشرَّ بسبب الشيطان الذي يسكنهم، والذي يستحق أنْ يُعاقَب. تبدو هذه النظرة غير حداثية للكاهن الأميركي. يخبر المكان عن طبيعة الشخصيات التي تسكنه. يبدأ "طقوس" بجملة للبابا يوحنا بولس الثاني: "إنّ المهمة الأولى للملاك جبريل محاربة الشياطين".
في الفيلم، جاء شاب من أميركا إلى الفاتيكان لتعلّم طقوس طرد الأرواح الشريرة. تكثر لقطات الكاميرا. تعمل "بلونجي" من السماء. الله يراقب عباده من بعيد. هذا يُرجع أفلام "هالوين" إلى منبعها. ما بدأ عيداً دينياً في المسيحية، صار أفلام رعب هوليوودية. تُحوّل أفلامُ "هالوين" السرديةَ الدينية عن اللعنة إلى فرجة. سردية أفعال ممتدّة في الزمن. مثلاً: في حكاية الراهبة المسلّحة بقوةّ خارقة ("الراهبة" لكوران هاردي، 2018)، يتم التعايش مع الغيبيات لتفسير الظواهر. كما في "الدمية أنابيل" الملعونة المسحورة (4 أجزاء في 2014 و2018 و2019 و2022)، و"لعنة تشاكي" (3 أجزاء في 1990 و1998و2013). دمية مكَّنت مُصوّريها من المتاجرة بالشرّ الميتافيزيقي، وسرد خرافات وعجائب، منذرةً بشرٍّ غامض، وقيامة وشيكة. هذا عنفٌ يتجاوز عنف أفلام "دراكولا"، ابن الشيطان.
يُقوّي العنصر الديني معاني الحكايات، لذلك تُقتَبس الأفلام من نصوص الهاجيوغرافيا المسيحية، لتسلية المتفرّجين الآمنين في أرائكهم. هكذا يتزامن العيد الديني وأفلام الرعب للتسلية وتحريك السوق في "هالوين". ليس صدفة أنّ المخرج المتصالح مع السوق، غييرمو دِل تورو، أطلق مسلسل "حُجرة العجائب" ("نتفليكس"، بدءاً من 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022). يُفترض بمخرجين آخرين أنْ يلتحقوا بفرجة الرعب، في ظلّ نموّ خدمات البثّ، فمستقبل منصّات "نتفليكس" و"ديزني" و"أمازون فيديو" أمامَها لا خلفها.
قبل أيامٍ، خرج آلاف الكوريين للإنفاق والاحتفال بـ"هالوين"، فدهسوا 120 شخصاً، ماتوا سَحقاً تحت الأقدام. هذا واقع لا خيال. لم يمت الكوريون الجنوبيون بسبب كوريا الشمالية، ولا بطريقة شاعرية. لم يقتلهم الشيطان، بل قتلوا بعضهم بعضاً. هذا يعطي فكرة مروِّعة عن الطبيعة البشرية غير الرومانسية.
"مات هابيل بلا أطفال. ينحدر البشر من نسل القاتل قابيل"، بحسب أركادي دافيدوفيتش. مع ذلك، تنشُر الرؤيةُ الدينية للعالم موقفاً متفائلاً، مفاده أنّ الخير مُقبلٌ بإذن الله. نظّم الدينُ أوّل أشكال العنف الشرعية. مثلاً: نَصّ التلمود البابلي على القتل بالرجم بالحجارة والحرق والقتل بالسيف والخنق، وعلى العقاب بالجَلد بالسوط 40 جلدة. الغاية من ذلك، بحسب ميشال فوكو، "إنتاج أجساد خانعة"، خاصة أجساد النساء.
في Exorcist Vengeance لسكوت جفري وريبيكا ماثيور (2022)، قبل أنْ يُحارب الكاهنُ الأرواح المُقاوِمة للرصاص، تُشير حركة جسد المرأة في الملصق إلى مكان اللعنة في الجسد. اللعنة عقابٌ على الخطيئة، وترتبط بالأعضاء التناسلية، باعتبارها سبب الخطيئة التي تجري في مكان مظلم. أفلامٌ أخرى تتجاوز هذه النظرة التقليدية للمرأة. يجري الرعب من أجل الرعب، كما في فيلم الدمية الملعونة "أنابيل" (3 أجزاء في 2014 و2017 و2019). ليس للّعنة أيّ بعد تاريخي. يبدو الصراع بلا هدف ولا دوافع، وهذا يُضعف التأثير. لإقناع المُشاهِد، لا بُدّ من شخصيات عدوانية مُتجذّرة، ليست طارئة منفصلة عن المكان. حين يكتب السيناريست عن مكان افتراضي، تكون النتيجة أنّ شخصيات الفيلم لا تحمل بصمات لغوية أو عرقية أو تاريخية أو اقتصادية، نابعة من المكان الذي تعيش فيه. لا يوجد إنسانٌ مُعلّق في الهواء. التراب جزءٌ من هويته.
تتآكل مصداقية أيّ فيلم، لا تتشكّل صورة الإنسان فيه انطلاقاً من مكان عيشه وزمنه. باستثناء هذا الاختلاف في استثمار بصمة المكان، وخلفيته الزمنية، تبدو أفلام الرعب مُتشابهة في لقطاتها. لكنْ، لا ينبغي لهذا التشابه في اللقطات أنْ يطمس الطبيعة الاجتماعية للعنف.
تستخدم هذه الأفلام وصفة، فيها مقادير شديدة من الرعب. مثلاً: أفلامٌ تُقدّم شخصيات عدمية في مكان غامض ومعزول ومهجور، وينكشف تدريجياً أنّه ملعون. تحكي الأفلام مصائب وفواجع وجوه حالكة ومُقنّعة. كائنات غريبة، وشبح بملامح متداخلة، يصبغها المخرج ببرميل دم. أرواحٌ شريرة تصير مصّاصة دماء. قوى شريرة تمثّل الشيطان، يجري تصويرها في زمن ما قبل اختراع الكهرباء، كي يكون الخوف مُقنعاً. بحسب التلمود البابلي، تسكن الأرواح الشريرة في الأماكن المظلمة والقذرة والأنهار والحمامات. تخاف من الضوء. يبدو أنّ الكهرباء أضعفت الخوف من الأرواح الشريرة. لذلك، انتقلت سلوكيات عيد الرعب إلى الشارع بهدف التسلية، وانتشرت ـ في مدن عالمية كبرى ـ صُوَر نحت "هالوين"، اليقطين، على شكل دماغ. يقطين في مواكب تنكرية، بأقنعة دموية وهياكل عظميّة وأسنان بارزة حمراء طريفة. هكذا تؤثّر التكنولوجيا على التديّن المعاصر.
تعرض أفلام الرعب تطبيعاً تامّاً مع الموت والجثث. موت سهل. يتزامن الأحياء والأموات. في أفلامٍ كثيرة، توضع الكاميرا في القبر، ويُهال عليها التراب. مع هذه الرؤية الذاتية، يشعر المتفرّج كأنّه يُدفن حيّاً.
تتكرّر في أفلام "هالوين" الأيقونات: غرابٌ على صليب وسبحة. نساء يحملن قناديل. شمع. نار مقدّسة. مفاتيح كبيرة صدِئة، في أبواب أديرة قديمة. ستائر داكنة تتحرّك. مصّاص دماء وسيم، ينقلب فجأةً إلى قاتل بشع، يُطارد أشخاصاً سعداء يحتفلون. في أفلامٍ كهذه، تقسَّمُ الشخصيات بين مكانين: واحدٌ آمن، يجري فيه احتفالٌ، وآخر خطِر، يجري فيه اصطياد الضحايا واحدة بعد أخرى، بالصدفة، وبطريقة عنيفة.
تستثمر هذه الأفلام حاجة البشر إلى الدهشة والصدمة، وإلى حكايات الأوغاد، بحسب غابريل غارسيا ماركيز. حاجتهم إلى الخوف كي يؤمنوا. فعندما قتل القديس جورج الغول، وحرّر ابنة الملك الجميلة، آمن الآلاف بدعوته المسيحية فوراً. في امتدادٍ لسلطة القدّيس في الأفلام، يرفع الكاهن الصليب في وجه الشيطان، فيندلع الخوف، ويسري في وجدان المتفرّج مشهدٌ، يتمثّل بمزيجٍ من سلطة الكهانية والدم المسفوح. مشهدٌ تقشعرّ له الأبدان. هذا عنف مجاني، يهدف إلى إخفاء عنف طبقي حقيقي سائد.
"العنفُ، تعريفاً، خطابٌ أو فعلٌ مُؤذ أو مُدمّر، يقوم به فردٌ أو جماعة ضد أخرى" (الأنماط الثقافية للعنف"، بربارا ويتمر، ترجمة ممدوح يوسف عدوان، عالم المعرفة، العدد 337، الكويت، 2007، ص 11). أميّزُ في السينما بين عنفين ورعبين:
أولاً، الرعب الميتافيزيقي يصدر عن قوى غيبية شيطانية، تُنذر بشرّ غامض، وقيامة وشيكة تصنعها أشباح وأرواح شريرة، تُحرّكها اللعنة، ويكافحها "طارد الأرواح الشريرة" (L’EXORCISTE) الذي يُمارس عنفاً مُقدّساً، إذاً شرعيٌّ.
ثانياً، الرعب الفيزيقي تحكمه قوانين الطبيعة، ويخضع للداروينية الاجتماعية، وفيه يُمارس البشر العنف ضد بعضهم البعض. العنف من أجل مصالح محدّدة معلومة. العنف الفردي أو الطبقي أداةٌ لحلّ الصراع. عنفٌ مُمنهج مقصودٌ، تقوم به عصابات أو أفراد للسيطرة على الآخرين، وعلى أملاكهم. يُصَنَّف ممارسو هذا العنف المقصود بأنّهم أوغادٌ، يستخدمون شرّاً بشرياً مُتعمّداً، مع سبق الإصرار. شرٌّ لا دور للشيطان فيه.
عنفٌ تحرّكه الداروينية الاجتماعية، التي تُطبّق قوانين التنافس من أجل البقاء في المجال الاجتماعي والشركات والألعاب، مثل "لعبة الحبار"، حيث يتقاتل الأشباه الغارقون في الديون. يقول مُنظِّر البقاء للأقوى "إنّ التنازع من أجل الحياة أكثر شراسة بين الأفراد والضروب التابعة للنوع نفسه" ("أصل الأنواع"، تشارلز داروين، ترجمة مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط. 2، 2004، ص. 135).
من أفلام التنازع البشري الصرف، تنافُسُ راقصات الباليه في "البجعة السوداء" (2010)، للأميركي دارّن أرونوفسكي، وتمارين الإذلال في "القلعة الأخيرة" (2001)، للإسرائيلي الأميركي رود لوري، وتجويع السجناء في "بلاتفورم" (2020)، للإسباني غالدِر غازتيلو ـ أوروثيا. تمدّد الرعب المتعمّد إلى المسلسلات، كما في "فايكنغ" (2013 ـ 2017)، الذي يستخدم فيه الزعيم راغنار لوثبروك فأساً للقتل، ويحظى بالإعجاب.
هذا عنفٌ بشري أعمق تأثيراً من أيّ عنف ينسب إلى الشيطان. في الحالتين، تنجح أفلام الرعب. التفسير: جماليات العنف والرعب مُربحة، والإنسان البدائي لا يزال جاثماً على لاوعينا. واضحٌ أنّ العقلانية في محنة.