سينما الأعوام العشرة العربية: النقد مطلوبٌ لفصل الحنطة عن الزؤان

22 يناير 2021
"القاهرة منوّرة بناسها" وثوّارها في 10 فبراير 2011: لكن، أين السينما؟ (كريس هَنْدرُس/ Gett
+ الخط -

أسابيع قليلة تفصل بين اشتعال النار في جسد التونسي محمد البوعزيزي (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010)، وتنحّي حسني مبارك عن الرئاسة المصرية (11 فبراير/ شباط 2011). أسابيع تشهد حراكاً شعبياً، يركن إلى السلميّ والعفويّ والمدنيّ، في مخاطبة سلطة قامعة، تُسبِّب انهياراتٍ في الاجتماع والعيش والاقتصاد والحياة اليومية. تسمية الحاصل بين التاريخين وبعدهما متنوّعة، واعتماد إحداها صعبٌ. أوقاتٌ تمرّ بعد البدايات، الحيوية والصادقة، تُسهِّل تحديد صفة، لعلّ "انتفاضة" أفضلها وأصدقها.

اللاحق على تلك الأسابيع معروفٌ، كالحاصل فيها. التحوّلات الضاربة في الانتفاضات كارثيّة. النتائج أعنف من حالٍ سابقةٍ على إحراق البوعزيزي جسده من أجل خلاصٍ ما، رغم أنّ ردّة فعله إزاء تصرّف الشرطيّة مليئة بغضبٍ وقهرٍ وانكسارٍ وخيبة. التحليل مطلوب، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وفكرياً. له اختصاصيون يتوغّلون فيه بأدوات علمٍ ومعرفة. عشرة أعوام لن تكون مجرّد رقم، لأنّها فعل حياة، وإنْ يغلب عليهما (الفعل والحياة) اضطرابات وقلاقل ومخاوف وخراب. عشرة أعوام تستحق تنقيباً في الحاصل، يبتعد عن انفعال اللحظات الأولى، وتفسيرات اللاحق على تلك اللحظات، بما في اللاحق من عنفٍ وتصفيات وتخريب وتزوير وإقصاء.

للسينما دورٌ يغلبُ أدوارَ فنونٍ وآداب. مع اشتعال النار في جسد البوعزيزي، تحضر الصورة، فوتوغرافيةً ومتحرّكة. الهواتف الخلوية حاضرة في الأمكنة والأزمنة المناسبة، المستمرّة إلى اليوم. صُور توثِّق، فتنقل إلى العالم لحظات مدوّية عن سخط أناسٍ وغضبهم وصراخهم، والهواتف وحدها تُعينهم على إيصال ما يبغون قوله، بحراكٍ وصورة وقولٍ. هواتف تُثير عنف سلطاتٍ تخشى توثيق جرائمها، رغم أنّ لها (السلطات) صُورها المبثوثة بطلبٍ منها، لتأجيج خوفٍ وترهيبِ عفويةٍ وإحلالِ كوابيس بديلاً عن أحلامٍ طيّبة.

عفوية انتفاضات كهذه ترافقها، بشكلٍ وثيق، عفوية تصويرٍ بهواتف يحملها كثيرون، لأنّها وسيلة وحيدة وأساسية لتواصل مع آخرين، رغم معوقات كثيرة. صُور تُصبح نواة بصرية لأفلامٍ تحتمل نعوتاً جمّة، وتشترك بتمكّنها من تأريخ اللحظة. الأفلام تتراكم عدداً، والغربلة النقدية تُناقش وتحاور وتُحلِّل، فيُصبح الأهم أقلّ من وفرةٍ، تبقى أساسية وضرورية لأرشفةٍ تصنع ذاكرة. أفلامٌ تحتاج إلى مزيدٍ من غربلة نقدية، فالوفرة غير قادرة على صنع سينما، بل تُسيء إليها، خصوصاً أنّ استغلال "الانتفاضات" يخترق السينما، مع تدفّق أموالٍ لإنتاج صُور، يُراد لها أنْ تكون سينمائية، فيغلب عليها التوثيق والتسجيل والشغل التلفزيوني. ذلك أنّ كلَّ هَمٍّ سينمائي لصانعي هذا النمط مُغيّب، إزاء وفرة مال، ينضب في فتراتٍ، ويختفي في أخرى.

الغربلة النقدية لأفلام الأعوام العشرة تلك مطلوبة. الحاجة ماسّة إلى تنقيةٍ صارمةٍ، لأنّ تشويهاً كبيراً لاحقٌ بالسينما والانتفاضات معاً، بسبب "تشبيحٍ" يتجاوز مرتكبوه كلّ أخلاقيّة في التعامل مع السينما والانتفاضات، لكسبٍ ماديّ فقط. مأزق فضح هؤلاء كامنٌ في ندرة، بل في غياب كلّ "وثيقة" تدين، رغم كلام يصدر عن عارفين بتفاصيل، يوثَق بهم وبكلامهم. تقديم مشروع "سينمائيّ" عن "ثورة" في بلدٍ عربي ـ سورية غالباً، أقلّه في الأعوام القليلة الماضية، ففيها حربٌ وخراب وتهجير وإلغاء، يفوق كلّ عنفٍ مُمارس في دول أخرى، وفيها صناعة سينمائية، يغلب عليها الوثائقيّ ـ يؤدّي أحياناً إلى مسألةٍ من ثلاثٍ: إمّا اختفاء المشروع في مرحلة التنفيذ لأسبابٍ جمّة؛ وإما تحقيق المشروع بأموالٍ أقلّ؛ وإما تحقيقه بأي طريقة، فتكون النتيجة كارثيّة بحقّ السينما، فلا الفيلم فيلم، ولا تنفيذ المشروع قابل لأنْ يكون نواة فيلمٍ.

 

 

حالة كتلك تُسيء، أيضاً، إلى أفلامٍ تتمكّن من بلوغ مهرجانات دولية، وإنْ يُمارِس توقيتُ الاختيار، أحياناً، ضغطاً غير مباشر. في الأعوام الأولى تحديداً، يشعر الغرب غير الرسميّ برغبةٍ في معرفة الحاصل في تلك البلدان. يريد ما لا تبثّه نشرات الأخبار، وما لا تتداوله مؤسّسات حاكمة. لاحقاً، يستمرّ هذا وإنْ بدرجات اهتمام متفاوتة الحماسة. سورية في قلب الحدث، وأفلامٌ عدّة، تُصنع عنها وفيها ولها، تخترق حواجز وتحدّيات، فتحصل على مكانٍ لها في حيّز دولي، من مهرجانات ("كانّ") وجوائز ("أوسكار"). الطّامة الكبرى أنّ أصواتاً صحافية وإعلامية وأقلاماً نقدية عربية ترى في هذا تلبيةً لأجندات أو إشباعاً لغريزة فردية: إنْ تصنع فيلماً عن سورية مثلاً، تُفتح لك الأبواب.

هذا قول غير دقيق، بل خاطئ. أفلامٌ سورية عن حربٍ وحشية تمتلك حساسية السينما ومفرداتها ومناخها ومتطلّباتها، فتُفتح لها أبوابٌ غربيّة. تُعرض في صالات أو لقاءات ثقافية وفنية واجتماعية. يتمّ اختيارها لمهرجان فئة أولى، ولغيرها من الفئات. يُحتَفَل بصانعيها، من دون التغاضي عن جوهر سينمائيّ حاضرٍ فيها. أفلامٌ أخرى تعجز عن بلوغ حيّز كهذا، لانتفاء السينما فيها. التشبيح يحصل، والحيّز الدولي بارعٌ فيه أيضاً لحسابات مختلفة. الاختيارات تنبع أحياناً من تفكيرٍ سياسي أو اجتماعي أو ثقافي قبل السينمائيّ. لكنّ اتّهام سينمائيين عرب بتلبية طلباتٍ غربيّة فقط، لبلوغ شهرة دولية، افتراء وتجنٍّ على من يصنع سينما حقيقية بينهم.

تحليلٌ كهذا قيل في مناسبات عدّة. نقّاد وصحافيون وكتّاب عرب، قليلو العدد، يُدركون ما يحصل هنا وهناك، من دون أي تردّد عن مواجهة تخبّطات تُسيء إلى السينما والحراك معاً. بعد عشرة أعوام، يُفترض بمواجهةٍ كهذه أنْ تُبلور تحليلها أكثر، وأنْ تُفرِّق بين "حنطةٍ" و"زؤان"، وأنْ تُدعِّم التفريق بينهما بشواهد وأمثلة ونماذج. عشرة أعوام كافيةٌ للبدء بمشروعٍ نقديّ مطلوب بشدّة، لتبيان الغثّ من السمين، ولإسقاط تهم عشوائية، ولفضح نتاجات سلطاتٍ قامعة، ولفهم آليات عمل الغرب وفقاً لمصالحه السينمائية غالباً.

المساهمون