"سيلَما" لهادي زكاك: بساطة اشتغال في توثيق ذاكرة وعيش

01 نوفمبر 2024
"سيلَما" لهادي زكاك: توثيقٌ ينبض بمشاعر وحنين وخيبات (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يستعرض فيلم "سيلَما" تاريخ صالات السينما في طرابلس وتأثير الأحداث السياسية والاجتماعية على تدهورها، من خلال شهادات 39 شخصاً وسرد توثيقي يجمع بين الصور واللقطات القديمة.
- يعكس الفيلم العلاقة بين المدينة وصالاتها السينمائية، مسلطاً الضوء على الفروقات الطبقية وتأثير السياسة على السينما، مع قصص عن عروض الأفلام المؤدلجة والاحتجاجات.
- يُعرض الفيلم لأول مرة في مهرجان الجونة السينمائي 2024، ويبرز الأمل في إحياء السينما بطرابلس من خلال مبادرات مثل إعادة افتتاح سينما "أمبير".

 

39 شخصاً يُشكّلون دعامة أساسية لـ"سيلَما" (2024) للبناني هادي زكاك. فهؤلاء، رجالاً ونساءً، يعرفون حكاية صالات طرابلس (شمالي لبنان)، في ازدهارها السابق على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وفي بداية انهيارها لأسبابٍ عدّة، أوّلها الحرب نفسها، ثم انتشار الفيديو، ولاحقاً على النهاية المزعومة لتلك الحرب، مع انتشار DVD مثلاً، وصولاً إلى حصول المرء على ما يريد بأدوات تكنولوجية حديثة كالهاتف، كما يُقال في الوثائقي. هناك أيضاً حركات أصولية إسلامية، وأزمة اقتصاد وحياة يومية، ودخول الجيش السوري إلى المدينة، وغيرها.

وهؤلاء، رغم بقائهم/بقائهنّ خارج عدسة الكاميرا (تصوير زكاك)، يستعيدون بالصوت ذكريات فردية، وذاكرة جماعية عن مدينة وناسها، وسياسة وعلاقات ونبضاً اجتماعياً، ينسجم مع محافَظةٍ مقبولة وانفتاح غير متفلّت، في زمن سابقٍ على تفشّي السلاح، وبعض السلاح منبثقٌ من عقائد وإيديولوجيات، ومن مليشيات أيضاً.

البداية مع المفردة المستخدمة عنواناً للفيلم، إذْ يقول بعض هؤلاء إنّ "سيلَما" لفظٌ طرابلسيّ للسينما، والأخيرة كما الأولى تعني الصالة. هذا يفتتح سرداً توثيقياً، يجمع بين بقاء المشاركين والمشاركات خارج العدسة، وتكثيف الصُور الفوتوغرافية (بغالبية الأسود والأبيض، إلى بعض الملوّن)، وفيها لقطات من أفلامٍ عربية (بغلبةٍ مصرية) وغربية (مع قليلٍ من الهندي وأفلام كاراتيه وغيرها)، ولقطات لصالات قديمة وفارغة. هذا كلّه يُضاف إلى عدم ظهور المخرج زكاك (كاتب الفيلم ومُنتجه، والمشارك في توليفه مع الياس شاهين) أيضاً، باستثناء لقطات ثابتة له، تُسَقّط على صالة مهجورة، أو في شارع صامت. غيابٌ يُستثنى منه سماع صوته وضحكته، إمّا عند طرح سؤال، أو كردّة فعلٍ على سرد حاصلٍ في صالاتٍ طرابلسية قليلة، في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، في حفلاتٍ تعرض أفلام "بورنو".

"سيلَما"، المعروض دولياً للمرة الأولى في الدورة السابعة (24 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، نتاجُ جهدٍ يعتاده هادي زكاك ويبرع فيه، منقّباً في أعتق مخابئ الذاكرة عن كلّ ما يرتبط بموضوعه، وملتقياً كلّ من يرى فيه معيناً، فيحصل منه على كلّ مُفيد، ومغربلاً هذا كلّه لصُنع فيلمٍ وثائقي، يُحافظ على بساطة سرد، ويمنح معلومات ومعطيات، من دون ابتعادٍ عن موقفٍ أو تعبيرٍ يظهران مواربة غالباً، فبالتوليف يقول ما يرغب في قوله.

في "سيلَما" (مدينة طرابلس وصالاتها مُصوّرة بين عامي 2014 و2022)، الذي توثَّق تجربة اشتغاله في كتاب "العرض الأخير، سيرة سيلَما طرابلس" ("زاك فيلمز"، بالتعاون مع جهات تمويلية مختلفة، منها "آفاق"، 2021)، بحثٌ في واقع مندثر، وحياة منتهية، وذاكرة يُراد لها غياباً. بحثٌ غير غائبٍ عن مقارنة غير مباشرة بين ماضٍ وحاضر، من دون بكائيّات، بل بحبّ ووفاء، رغبةً في حفظ المُستطاع حفظه، وفي تذكيرٍ بغنى الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية، وبما في هذه الحياة من موروثٍ غير حائلٍ دون تمتّع بالصالة وعروضها.

 

 

لا ظهور للمشاركين والمشاركات (باستثناء صُور لكلّ واحدٍ منهم/منهنّ في جينيريك النهاية، مع ذكر الأسماء). بهذا، يُتيح زكاك حيّزاً أوسع لمُشاهدة بقايا صالات، وملامح مدينة، وحضور أناسٍ في أزقّة ومقاهٍ وحكايات، ولاستماعٍ إلى ما يرويه هؤلاء، من دون التهاءٍ بصري بهم/بهنّ. والأجمل أيضاً اعتماد زكاك تقنية معروفة في الأفلام الصامتة: جُملٌ مكتوبة في إطارٍ يوحي بزمن سينمائيّ قديم (السينما الصامتة)، تقول (الجُمل) شيئاً من انفعاله وتفكيره وإحساسه بالمدينة والصالة والأفلام. جُملٌ تبدو توثيقاً لعلاقته بمضمون مشروعه، ولتنبيهٍ إلى تفاصيل ولحظاتٍ تاريخية، وإلى شيءٍ حميم في ارتباطه بالصالة وبالسينما، فالأسود الذي يحلّ على الشاشة لوقتٍ قصير يترافق واندلاع الحرب الأهلية، وكتابات لاحقة تشير إلى اختلاف الزمن ومفاصل الحكاية.

أما المرويّ، فكثيرٌ وممتع، رغم مُصاب لاحق على زمنٍ أجمل من اللاحق عليه، بشهادة رواة: عمارات تُبنى، فيأتي من يُقنع صاحبها بتخصيص مساحةٍ فيها للصالات. الأفلام، بأنواعها. تقسيم، طبقي اجتماعي اقتصادي، بين "فوق" (ما يُعرف حينها بـ"صالون")، الأغلى ثمناً من "تحت" (أوركسترا في صالات عدّة). علاقات حبّ فزواج، أو علاقات يريدها شبّان في عتمةٍ تحجبهم عن الجميع، لكنّ حياءً، معطوفاً على تقاليد بيئة وصرامة أهل، يمنع صبايا كثيرات من تلبية المرغوب فيه. المُضحك، بحسب روايات البعض، أنّ أساتذةً يأتون صالات الـ"بورنو"، ما يُعزِّز من موقع التلامذة، أقلّه بشعورٍ فيهم أنّهم متساوون، ولو لفترة قصيرة جداً، مع أساتذتهم.

للسياسة حضورٌ في الصالات القديمة أيضاً (صور سياسيين حاليين مرفوعة على جدران أبنية فيها صالات قديمة، في مقارنة جميلة بين ماضٍ بهيّ وحاضر عفن). احتفالات وخطابات، ونوادي سينما، والحزب الشيوعي يُنظّم عروضاً لأفلامٍ مؤدلجة ولغيرها أيضاً. حكاية "القبعات الخضر" (1968) لجون واين وراي كيلّوغ مُثيرة لضحكٍ، مع كشفها نفوساً وتفكيراً، إذْ يُقال لكثيرين بضرورة حمل البندورة والبيض معهم لرميها على واين، الضابط في الجيش الأميركي المُحارِب في فيتنام. غضبٌ وفوضى، قبل تهدئة الجموع بالقول إنّ أصحاب الصالة سيوقفون عرضه، وسيعرضون بدلاً منه "سفر برلك" (1967) لهنري بركات. لكنّ الخروج من الصالة غير عادي، فحرب فيتنام مشتعلة، ما يستدعي تظاهرة حاشدة دفاعاً عن فلسطين وفيتنام. حكاية أخرى تُروى: مسلّحون يشاهدون فيلماً، فيُقرّر أحدهم إطلاق الرصاص ليقتل من يظنّه خائناً. النتيجة؟ تمزيق الشاشة، وبقاء الخائن حيّاً.

هذا بعض حكايات مروية، تجمع بين متعة الاستماع وما يُثيره من تسلية، وتنبّه إلى حقباتٍ طرابلسية مختلفة، وغضب مبطّن إزاء خراب وفراغ حاصِلَين في المدينة وصالاتها. ففي أول جملة مكتوبة في الإطار، يُذكَر التالي: "وصلتُ إلى طرابلس في شمال لبنان لأبحث عن "سيلَما"، ربما لأن بيروت فقدت صالاتها التاريخية مع مشروع إعادة الإعمار أو التدمير". وقبيل النهاية (89 دقيقة)، هناك ثلاث جُمل ستكون امتداداً/اختزالاً مُكثّفاً للنص المُصوَّر والمحكي عن ذاك البحث، ولحكاية زكاك أيضاً: "أصوّر نهاياتٍ ربما لأنني أبحث عن بدايات"، وهذه مكتوبة بعد سماع أحدهم يقول: "لماذا السينما (أي الصالة) تموت؟ لأنّ الحالة الحضارية والثقافية والذهنية والمجتمعية انتهت". ثم: "غابت "سيلَما"، غاب عالم بأكمله". أخيراً: "وما زلتُ أبحث عن شاشةٍ أجد فيها نفسي".

هناك "مهرجان طرابلس للأفلام"، للقول إنّ أملاً ما في إنعاش المدينة سينمائياً (صالات وأفلام) ماثلٌ، وهذا مُعزّزٌ بذكرِ حاصلٍ فيها بعد "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، يتمثّل بإعادة افتتاح سينما "أمبير" عام 2022، بتحويلها إلى "المسرح الوطني اللبناني" (جمعية تيرو للفنون ـ مسرح إسطنبولي).

لكنّ المدينة تغرق أكثر فأكثر في فقرٍ وانشقاقات وتشدّد. فهل هناك، فعلاً، أملٌ بنهضةٍ ما؟

المساهمون