"سيرة ذاتية" إندونيسية: جرأة طرح ومعالجة

17 ابريل 2023
"سيرة ذاتية": رصدٌ مُثير وجريء ومؤلم للديكتاتورية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في فيلمه الروائي الأول، "سيرة ذاتية"، يتجاوز الناقد السينمائي والسيناريست والمخرج الإندونيسي مقبول مبارك (1990) الطرح المُباشر لقضية الخير والشر، وارتباطها بالسلطة والقوة، برصده، بعمق وصدق ومن دون سطحية، وعبر سرد مُثير وجريء ومؤلم، الممارسات الديكتاتورية والفاشية، ورغبة الفرد في السلطة والهيمنة. إضافة إلى تحليل تأثير هذه الممارسات في أفراد المجتمع، خصوصاً الشباب. ورغم أنّ خلفية الفيلم تتناول المشهد السياسي ـ الاجتماعي في إندونيسيا تحديداً، تصلح أحداثه وشخصياته لتكون سِيَراً ذاتية نموذجية لمجتمعات ودول عدّة.

يوضح "سيرة ذاتية"، من بين أمور كثيرة، كيف أصبح الفساد والقمع والصراع على السلطة، والانقسام الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وتعقيدات القضايا الأبوية، أموراً راسخة، وحقائق تستحيل مقاومتها والتخلّص منها في إندونيسيا؛ وكيف تسيّدَت هذه القواعد الاجتماعية، غير المُعلنة، وذات التسلسل الهرمي القمعي، الأوجه المختلفة للحياة، إلى درجةٍ لا يمكن مناقشتها وتحدّيها ومحاربتها، فالذين يتجرّأون على تحدّيها ومواجهتها، يَلقَون أسوأ العواقب.

تركز حبكة "سيرة ذاتية" على الخادم والحارس الشاب رقيب (كيفين أرديلوفا)، ذي الأعوام الـ16، الساكن الوحيد في قصرٍ ريفي فاخر، في قرية إندونيسية، تملكه عائلة الجنرال المتقاعد بورنا (أرسويندي بيننغ سوارا)، التي خدمتهم عائلته عقوداً مديدة. فجأة، من دون إنذار مسبق، وبعد غياب أكثر من عقد، يعود الجنرال بورنا إلى قريته وقصره، ويتعرّف إلى الشاب الذي لم يقابله قط، ويُبقيه في خدمته. لاحقاً، يتّضح أنّ الجنرال قرّر العودة للترشّح في انتخابات رئاسة البلدية، وقيادة حملته الانتخابية الضخمة بنفسه.

تدريجياً، يرتبط رقيب بالرجل الوقور المهيب، رغم جهله التام بشخصيته. ونظراً إلى أنّ والده مسجون لممارسته العنف ضد بناء سدّ هيدروليكي في القرية، أفضى إلى سلب البسطاء أراضيهم؛ وبسبب اغتراب شقيقه الأكبر للعمل في المعمار، في سنغافورة؛ يصبح بورنا أباً وشقيقاً أكبر ومعلّماً مُقرّباً للشاب المغلوب على أمره. باكراً في الفيلم، يرفض رقيب الذهاب إلى سنغافورة كعامل بناء، مثل شقيقه. خياراته في هذه المرحلة من حياته إما الانضمام إلى أخيه كعامل في موقع بناء، حيث سيتمّ الاتجار به عبر الحدود من رجل عصابات محلي، أو البقاء والعمل خادماً وتابعاً في قصر الجنرال.

مع الوقت، يقتنع رقيب بالعمل خادماً وسائقاً وتابعاً لبورنا، الذي يأخذه تحت جناحه. فيتذوّق الشاب طعم القوّة، ويمنحه الجنرال مهابة السلطة، ويُكسبه الاحترام لأول مرة في حياته. نتيجة ذلك، يتزايد إعجابه ببورنا، وبشخصيته الكاريزماتية، وبرؤيته له كأب بديل، خصوصاً مع علاقته المتوترة بوالده المسجون، أمير (ركمان روزادي)، الذي لم يوافق على اقترابه من بورنا، محذّراً إياه من تبعات الأمر، فالاقتراب من السلطة يُهدّد بتلطيخ الروح وإفسادها.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

مرّات عدّة، يُخاطب بورنا رقيب على أنّه "ابن" له، مُقدّماً إياه إلى الناس كابن لا كخادم. السبب الرئيسي، ربما، كامنٌ في عدم إنجابه ذكوراً، بل إناثاً فقط. المثير للانتباه أنّه، كلما مرّ الوقت الذي يمضيه رقيب مع بورنا، يُصبح أكثر شبهاً به. يتجوّل هنا وهناك بتبجّح ينضح بالقوّة والتخويف، كجنرال لا كخادمٍ، ابن سجين. لذا، يراه الجنرال نسخة مُصغّرة منه. ورغم أنّ عاطفة بورنا تجاهه تبدو حقيقية وصادقة، فإنّها تتجاوز كونها مجرّد علاقة أبوية صادقة، إلى الأكثر حسّية، وإنْ لم يتأكّد الأمر. هذا يضيف طبقة أخرى إلى تعقيدات شخصية بورنا، المريضة والمُركّبة.

رغم ذلك كلّه، لا تمنع العلاقة اللصيقة بينهما رقيب، ذات يوم، من مواجهة الجنرال، الذي يغذّي شهوة الشاب للسلطة والقوّة. فالأمور تتّخذ مُنعطفاً مظلماً، عندما يغضب الجنرال، بعد تمزيق إحدى لافتات حملته الانتخابية، فيتطوّع رقيب لمعرفة الجاني. لكنّ الأمور لن تبقى كما كانت، منذ تلك اللحظة، إذْ ينكشف الوجه الحقيقيّ القمعي للجنرال أمامه، ويبدأ إدراك أنّ بورنا ليس الرجل الذي يحترم قانوناً أخلاقياً وإنسانياً، وكيف أنّه، في الواقع، عجوز متعطّش للسلطة، لا يقبل انتقاداً لأوامره وأيديولوجيته.

التحوّل المفاجئ والجذري للأحداث يضع رقيب أمام معضلة ضخمة، بين الولاء والعدالة، تدفعه إلى التفكير والتساؤل عن معبوده، الذي منحه السلطة، وكيف أنّ ما بدأ من جانبه سعياً حثيثاً إلى السلطة والاحتماء بها، انقلب إلى محنة من أجل الخلاص منها، والفرار بعيداً، بحثاً عن الحرية. لذا، في الفصل الأخير، يتحوّل "سيرة ذاتية" إلى قصة تنافسهما على إحكام سيطرة أحدهما على الآخر، أو إزاحته كلّياً. هذا يُسبّب خسائر فادحة، تُجسّد الصراعات العميقة بين الكبار والصغار، والسلطة والمقاومة، والماضي والحاضر، والكهولة والشباب.

في السياق نفسه، يؤكد مقبول مبارك، بذكاء، أنّ عرش الظالم الديكتاتور الفاشي يتغذى، دائماً، من خوف مرؤوسيه وضعفهم وانصياعهم وولائهم المطلق. ويطرح، عبر شخصية رقيب، سؤالاً مُلحّاً: كيف تتخلّص من الوحش، من دون أنْ تصبح أنتَ الوحش نفسه، أو تحلّ محلّه، أو تُلطّخ روحك؟ هذا مطروحٌ من دون حوارات مشحونة بخطابية وميلودرامية، بل بحرص شديد على الابتعاد عن الرمزية والمباشرة، باعتمادٍ ملحوظ على خلق توتّر دائم بين الشخصيتين، وتفجير أحداث مشؤومة، تنذر بمخاطر وسوء عواقب.

يمرّ "سيرة ذاتية" في تحوّلات كثيرة. يبدأ كقصّة شاب مكافح، ثم يتحوّل ببطء إلى فيلم إثارة، وينتهي كحكاية انتقام، وربما تحقيق بعض العدالة. رحلة رقيب من البراءة إلى التواطؤ مُقنعة ومُبرّرة، ومُكثّفة بشدّة، في سياق سيناريو قوي درامياً، كتبه مبارك بحرفيّة، أبرزت جوانب الضعف والقوة في البطلين، اللذين جرت إدارتهما إخراجياً بمهارة لافتة للنظر. أداء كيفين أرديلوفا صادقٌ في نقل تعبيرات وجه رقيب ومشاعره المتضاربة، من ألمٍ وشعور بالذنب وجوع إلى السلطة، وغيرها. ينطبق هذا أيضاً على الأداء الهادئ الرصين لأرسويندي بيننغ سوارا في تقديم الجنرال المُستغلّ والمُهدِّد والباطش وهَشّ الأنا، والمُتعدّد الطبقات.

اللافت للانتباه أيضاً أنّ الترجمة البصرية للأحداث جاءت على نحو بالغ الفنيّة والاحترافية، عبر تكوينات بصرية أبدعها مدير التصوير فويتشيخ ستارون، في لوحات لونية غلب عليها الرمادي والأزرق والأخضر. كذلك، تميّزت الكادرات بهيمنة اللقطات القريبة ومتوسّطة الطول للبطلين، وتعدّد استخدامات الإضاءة المنخفضة في المنزل، لتبرير التحوّلات في السرد، وتطوّر الشخصيات. هذا منح "سيرة ذاتية" إحساساً بالإثارة والحيوية، مَلحوظين ومؤثّرين للغاية.

المساهمون